"بنيت العدالة الاجتماعية على خمس" رواه أحمد السيد النجار
(1)
أحمد السيد النجار، رئيس مجلس إدارة الأهرام، والكاتب الاقتصادي اليساري، انتقد في مقال له توجه السياسة الاقتصادية في مصر، من جهة مدى تحقيقها لـ"قواعد العدالة الاجتماعية".
لم يقل لنا قواعد العدالة الاجتماعية بالنسبة لمن، بالنسبة لمارجريت ثاتشر، أم بالنسبة لهوجو تشافيز، أم بالنسبة لأحمد السيد النجار. لا. على عادة الخطاب الاقتصادي اليساري، افترض أن قواعد العدالة الاجتماعية التي يتبناها متفق عليها. أو بمعنى آخر، آتية من قوة علوية وما علينا إلا أن نلتزم بها لكي ينصلح اقتصادنا، ونعيش في تبات ونبات.
من قواعد العدالة الاجتماعية التي ذكرها في مقاله:
"تتضمن بناء نظام ضريبى شامل لكل الأوعية ومتعدد الشرائح وتصاعدي على الدخل وعلى أرباح الشركات (…) والحقيقة أن التحرك باتجاه تحسين قواعد العدالة في النظام الضريبى بات مهددا بما أعلن عنه وزير المالية من تخفيض الشريحة العليا للضريبة على الدخل بالنسبة للأثرياء من 30% لمن يتجاوز دخله مليون جنيه في العام إلى 22.5% فقط، علما بأن المعدل في الدول الرأسمالية المتقدمة والنامية والجاذبة للاستثمارات يتجاوز المستوى الراهن المراد تخفيضه بكثير، فالشريحة العليا من الضريبة على الدخل تبلغ 62% في الدنمارك، و57% في السويد، و50% في اليابان، و45% في الصين، و35% في تركيا، و37% في تايلاند، و40% في كوريا الجنوبية، و40% في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
كما تتضمن قواعد العدالة الاجتماعية ضبط الأسعار في السوق بصورة ترتبط بتكلفة إنتاج السلع والخدمات ومكافحة الممارسات الاحتكارية لضمان أسعار عادلة للسلع تخلق توازنا في المصالح بين المنتجين والتجار من جهة والمستهلكين من جهة أخرى. كما تتضمن قواعد العدالة الاجتماعية قيام الحكومة بتقديم تمويلات اجتماعية للفقراء، وبناء نظام للدعم السلعي أو النقدي للفقراء ومحدودي الدخل".
نظام الضرائب التصاعدي، أو تحديد سقف منخفض للضرائب، مجرد إجرائين اقتصاديين على قدم المساواة من حيث الطهر والنجاسة. بمعنى أن أحدهما لا يمثل "عدالة اجتماعية" والآخر لا يمثلها، بل إن الحكومات تختار الأنسب لها حسب ظروفها الاقتصادية في وقت ما.
د. أحمد السيد النجار ذكر أن الضريبة في بريطانيا 40%، ألقى لنا المعلومة وكأنه يقدم لنا "الدليل النقلي" على صحة وجهة نظره.
لكنه لم يذكر، مثلا، أنها كانت 82% حين تسلمت ثاتشر رئاسة الوزراء بعد اليساري، جيمس كالاجان، في فترة أوشك فيها الاقتصاد البريطاني على الانهيار. ولم تفلح زيادة الضرائب في سد عجز الحكومة، لأنها طفشت الاستثمار، ووضعت الحكومة رهينة - بالتالي - لإضرابات عمال القطاع العام. لقد كانت سياسات ثاتشر الرأسمالية هي التي أخفضت الضرائب بهذا الحد، أكثر من النصف، لتصير 40% نزولا من 82%. لم تقل إن موارد الدولة ستنخفض ونحن نحتاجها، بل شجعت رأس المال على العودة إلى الاستثمار، وهذا ما أنعش الاقتصاد، وحققت معجزة اقتصادية في فترة حكمها.
حين يحقق تخفيض الضرائب هدفه، باجتذاب رؤوس الأموال، وتشغيل الاقتصاد، يمكن للحكومة أن تغير سياستها. يمكن أن تغير ليس فقط في نسبة الضرائب المستحقة، بل في مستوى الدخل الذي تصير عنده هذه الضرائب مستحقة. فتعفي شرائح، أو ترفع الضرائب على شرائح أخرى. أو تعفي المتزوجين حديثا، أو من لديهما طفل، أو ترفع الضرائب على من لديه عدة أطفال. كلها إجراءات لا شيء مقدسا فيها، ليست أحكاما دينية ينسخ بعضها بعضا، وعلينا أن نلتزم بالناسخ، ونترك المنسوخ. بل حزمة من الخيارات التي عليك أن تبذلي مجهودا لإقناعنا بها، ولا تكتفي فقط بسرد "الأحكام" بشأنها. مثلا، الحكومة الرأسمالية الحالية في بريطانيا اضطرت إلى رفع الضريبة على الدخل، بعد الأزمة العالمية. هنا انتفي الغرض من إبقاء الضرائب منخفضة. الانهيار الاقتصادي العالمي أثر على الاستثمارات في الدول التي تأثرت به، ولم يكن إجراء تخفيض الضرائب وحده قادرا على اجتذابهم.
(2)
هذا المقال بالتالي ليس عن الجدل الاقتصادي حول نقطة ما، بل عن فلسفة إدارة الاقتصاد. طريقة النظر إلى الإجراءات الاقتصادية. ثم، خلف ذلك، فلسفة تقييم الإجراءات في الحياة العامة بشكل أشمل.
التيارات السياسية في مصر تمارس السياسة - والأنكى الاقتصاد - بلفسفة الدين، وتكتب في السياسة - والأنكى الاقتصاد - بنظام تأويل النصوص. تتحدث عن "الحقوق الثابتة" وكأنها فروض دينية ما على الناس إلا أن تستجيب لها وتنفذها، ومن تحد عنها تُرد إلى طريق الصواب، أو تعتبر مارقة تريد أن تمالئ السلطة. فكرة أن الناس تقتنع بوجهات نظر مختلفة ليست موجودة لديهم. كأن حزمة من إجراءات سياسية معينة نزلت علينا بوحي سماوي.
الغرض من الإجراء السياسي تحقيق المنفعة العامة، وليس تحقيق "رقم" أو تنفيذ إجراء بعينه. غرضنا الآن جذب الاستثمارات.
(3)
كيف نغري الاستثمار بالقدوم إلى مصر، التي ليس لديها حاليا ما يجذبه، إلا بإغرائهم بتضخيم الأرباح! لماذا نفعل ذلك؟ لأننا في حاجة ماسة إلى فوائد أخرى غير العائد الضريبي. في حاجة إلى تشغيل أيد عاملة. إلى طرح مصر كسوق اقتصادي جاذب. إلى توسيع الرقعة الإنتاجية لكي تشمل نشاطات جديدة. إلى رفع كفاءة العمال المصريين بتشغيلهم في هذه الأنشطة. إلى تنشيط حركة التجارة الداخلية والخارجية. إلى خلق آلية لمد المرافق إلى مجتمعات جديدة لفك تكدس العاصمة.
لو افترضنا أن مستثمرة معينة تكسب مليون جنيه في السنة، وتدفع بالتالي 220 ألفا منهم ضرائب. فإن من تكسب مليونين ستدفع 440 ألفا منهم ضرائب. أي أن القيمة المطلقة المدفوعة لخزانة الدولة متفاوتة في الحقيقة. الأولى ستدفع رواتب 15 موظفة (أو موظفا) حكوميا، بالإضافة إلى العدد الذي تشغله في شركتها. والثانية ستتكفل برواتب 30 موظفا حكوميا إلى جانب من تشغلهم في شركتها. ومن يشتغلون في نقل منتجاتها. ومن يشتغلون في بيع هذه المنتجات للمستهلك. وهذا مفيد أيضا في إدخال هذا العدد من المشتغلين إلى الاقتصاد الرسمي، وبالتالي إدخالهم في دائرة التحصيل الضريبي، التي يزوغ منها كثيرون ممن لا يعملون في ظل الاقتصادي الرسمي. دورة اقتصادية متكاملة. ومنافع اقتصادية غير منظورة.
(4)
الآن لننظر إلى الموضوع من وجهة نظر أخرى. افترضي أننا سمعنا كلامه في وقتنا الحالي. أننا رفعنا الضرائب إلى 40%. نعم. من تكسب مليونا ستدفع أكثر، ستدفع للحكومة 400 ألفا. لكننا نغفل عن نقطة أخرى. أن عدد المستثمرين الكلي سيكون أقل. سأضرب مثلا رقميا:
لنفترض أن مصر قررت أن تكون ضريبة الدخل على المليون40% كما يطالبنا النجار. سيأتي إلى مصر 10 مستثمرات مثلا. ستدفع كل منهم 400 ألفا. سيدخل خزينة الدولة4 ملايين جنيه.
بينما لو أغرينا أصحاب المشاريع بضريبة هي النصف من ذلك، سيأتي إلينا ضعف هذا العدد ويزيد. وسيكون الداخل إلى الدولة نفس المبلغ تقريبا. هل هذه نهاية القصة؟ أبدا. لأننا سنشغل في شركاتهم ضعف الأيدي العاملة. ونحن نحتاج بشدة إلى مكافحة البطالة. كما أننا سنوفر لهؤلاء المستثمرين فائض ربح يغريهم بفتح مشاريع استثمارية أكثر، وتشغيل عمالة أكثر. أما عن باقي الدورة الاقتصادية فقد ذكرتها أعلاه. كل هذا سيتضاعف.
لقد انتقل العالم منذ فترة من عصر الرياضيات إلى عصر الفيزياء. من عصر 1+1= 2 إلى عصر 1+1= قيمة تتغير بعوامل أخرى ليست واضحة في هذه المعادلة الحسابية. لكن يبدو أن تخلفنا المجتمعي ليس في العلوم المعنوية فقط، إنما في العلوم التجريبية أيضا. المشاعر الروبن هودية تبدو "عادلة" لكنها في الحقيقة مخربة للاقتصاد.
(5)
بائع الطماطم يقدم فهما أفضل للاقتصاد حين يهتف: "حمرا ومجنونة يا قوطة". أي خاضعة للعرض والطلب لأنها سلعة مهمة. ولو حاولت أن تفرضي عليها سعرا معينا ستنهار وتختفي لأن السعر المفروض لن يحقق لمنتجيها ما يغريهم بالاستثمار. هكذا دمر الاقتصاد اليساري، والاقتصاديون اليساريون، سلع مصر الزراعية، كالقطن والقمح، بإجراءاتهم، ولا يزالون مصرين على الفشل. هزمهم المنطق، وهزمتهم التجربة، فلجأوا إلى خطاب أخلاقي يفترض أن إجراء سياسيا معينا "فرضا" يجب الالتزام به. أو أنه أعلى أخلاقيا من إجراء ثان، بسبب قيمة جوهرية ذاتية تجعله أفضل، وليس بسبب نتائجه، ومدى تحقيقه للنفع العام.