التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 09:54 ص , بتوقيت القاهرة

كيف نتحرر من «دعم» يُضعفنا ولا يدعمنا؟

الهدف من الدعم هو إيصال مجموعة سلع وخدمات للأفراد غير القادرين في المجتمع، بسعر أقل من سعرها الأصلي، بما يعني أن تتحمل الموازنة فارق السعر، يمنع هذا وجوه إنفاق أخرى في الموازنة، ويجعل المنظومة تعيش على طريقة "اليوم بيومه"، بدلاً من الإنفاق على مجالات التطوير ذات الرؤية المستقبلية كالبحث العلمي مثلاً. 


يلتهم الدعم نسبة تتجاوز ربع إجمالي إنفاق الموازنة المصرية، ولنا أن نُقارن هذا بعجز الموازنة الحالي لنُدرك كم المبالغ التي يُمكن توفيرها وتوجيهها لبنودٍ أخرى.


المشكلة بالطبع أن إلغاء الدعم فجأة وبدون تدريج سيقود إلى آثار اجتماعية بالغة السوء؛ لهذا تعتمد الحكومة فكرة الخفض المُتدرج، لأن المجتمع المعتاد على الدعم سيتأثر كثيرٌ من المواطنين فيه بإلغائه المفاجئ.


القطاعات الأساسية التي تحصل على الدعم في مصر هي الطاقة، الغذاء، الفلاحين، الصناعة، النقل، بالإضافة لدعم المعاشات والضمان الاجتماعي.


بالتدقيق في الأرقام المُقررة في موازنة العام الحالي مثلا من وزارة المالية، فنحن ندفع تقريبا وفقًا للمقرر بالموازنة حوالي 100.25 مليار جنيه لدعم المواد البترولية (قد يحقق انخفاض الأسعار الحالي قدرًا من الوفر قد يصل إلى 30 مليار جنيه إذا استمر حتى نهاية العام  المالي الحالي)، بالإضافة لحوالي 27.4 مليار جنيه دعمًا للكهرباء التي يُباع الكيلو وات ساعة المنتجة منها بمتوسط يعادل ثلاثة أخماس متوسط القيمة الحقيقية للتكلفة بإجمالي دعم للطاقة في حدود 127.5 مليار جنيه.


أما دعم السلع التموينية الأساسية بما فيها الخبز فهو  31.5 مليار جنيه. ويبلغ الدعم الزراعي 3.3 مليار جنيه بينها 2.6 مليار جنيه دعم للمحاصيل، حيث تدعم الحكومة القمح بالذات عبر شرائه من الفلاح بسعر أعلى من سعره العالمي.


ودعم الصادرات حوالي 2.6 مليار جنيه، ودعم المناطق الصناعية 0.4 مليار جنيه. ويبلغ دعم النقل 2.5 مليار جنيه تتضمن دعم المواصلات في القاهرة والإسكندرية  وخطوط السكك الحديدية غير الاقتصادية، ومشروع التاكسي الأبيض، ودعم اشتراكات الطلبة. هذا بالإضافة إلى حوالي 44 مليار جنيه في الضمان الاجتماعي وصناديق المعاشات.



بخلاف فكرة الخفض التدريجي للدعم، فإن هناك فكرة أخرى ستكون فعّالة للغاية في تخفيض قيمة المبالغ المُهدرة بلا طائل، وهي التحول أكثر فأكثر من الدعم العيني إلى الدعم النقدي.


هناك  نجاح تحقق في العام الماضي في منظومة دعم الخبز والسلع التموينية، حيث انخفضت قيمة دعم الخبز من جهة، وتم توجيه جزء مما تم توفيره لدعم السلع الأخرى في حين أن المواطنين عمومًا كانت درجة رضاهم أعلى، واستفادوا بشكل أكبر من الخدمة. لماذا؟ لأنه أصبح كل وفر يحققه المواطن في استهلاكه يعود إليه في صورة أخرى، وبالتالي تراجع الهدر من جهة، وزاد رضا المواطن الذي ينتج دائمًا عندما تترك له( حرية الاختيار).


المهم أن هذا يعطيك نتيجة معروفة سلفًا، أن اختلاف مفضلات الناس يجعلهم بالضرورة يختلفون في مزاجهم الاستهلاكي، وبالتالي فالدعم غير المشروط  يحقق  خسائر للموازنة ولا يحقق رضا المواطن، بل كلما أصبح من الممكن أن يستفيد المواطن من ترشيد استهلاكه، فإنه بالفعل يقوم بترشيد استهلاكه.


 وكمثال آخر، بدأ هذا العام تطبيق خُطة من عدة سنوات لإلغاء الدعم على الكهرباء عبر زيادة الأسعار في يوليو الماضي، وهذا أدى بالفعل إلى انخفاض حجم الاستهلاك المتوسط لكل مواطن بعد الأسعار الجديدة، فالمواطن الذي لا يغلق الأضواء أو أجهزة التكييف بعد استخدامه لها أو يستخدم أجهزة كهربائية بكثافة شديدة  تفوق حاجته (قد) يقلل استخدامه، ويفعل ذلك التزامًا بالتوعية والترشيد، ولكن( قد ) هذه ستتحول إلى احتمال مؤكد إذا كان هذا سيوفر له الكثير من نفقاته المالية، ولهذا فإنه كلما كان السعر للمستهلك قريبًا من السعر الحقيقي، فإن المواطن يلتزم أكثر وأكثر بما يحقق له فائدة.


إذن فإن حقائق السوق تفرض نفسها دائما على اختيارات الناس، وطالما أنه لا يُمكن إلغاء قدر كبير من مخصصات الدعم، فإن تحويلها لدعم نقدي سيحقق فائدة كبيرة للمواطنين وللدولة معا وبنفس طريقة بطاقات التموين.


كمثال على ما أعنيه، تخيل مثلا أنك قررت تحويل بند دعم المواد البترولية إلى دعم نقدي للمواطنين، فإن حصة كل مواطن  من هذه المائة مليار جنيه (بافتراض أن الدعم سيوجه للجميع بما فيهم أغنى الأغنياء)، سيكون في حدود ألف ومائتي جنيه  سنويا، أي أن القيمة العينية لأسرة بحد أقصى أربعة أفراد (لمنع الاستفادة من كثرة الإنجاب) ستكون أربعة آلاف وثمانمائة  جنيه سنويًا، أي في حدود أربعمائة جنيه شهريا للأسرة، تخيل أنك حررت أسعار السلع البترولية، وتركت للمواطن الحاصل على الدعم الاستفادة بهذا المبلغ بالشكل الذي يراه.


وعندها فقط سيكون للمواطن استفادة من استخدام سيارة موفرة للطاقة بدلا من زيادة الاستهلاك، أو استخدام النقل الجماعي بدلا من السيارة الخاصة، أو استخدام الدراجة بدلا من السيارة، تخيل إذن لو أنك طبقت نفس الفكرة على بقية السلع المدعمة.


في الواقع أن الدعم النقدي كبديل عن الدعم العيني يجعل المواطن الأكثر فقرًا يحقق أكبر استفادة بالفعل، أي أنه حتى بمنظور فلسفة الدعم  ذاتها فهو أكثر فائدة للأكثر فقرًا، فالمواطن الفقير في مصر والأكثر احتياجًا للدعم  لا يركب سيارة خاصة، ولا يمتلك أجهزة تكييف في منزله، بالضبط كما كان محتاجًا للخبز بالقدر الذي يمنعه من بيعه لتجار العلف.


بالإضافة إلى أنه في هذه الحالة المواطن يختار في أي اتجاه يستخدم  قيمة الدعم، فهو يملك المال ويستطيع استخدامه عندما يركب المواصلات الخاصة أو العامة أو توفيره أو دفعه كجزء من زيادة استهلاكه للكهرباء إلخ.  وفي ذات الوقت فإن الأسعار تصبح أخيرًا حرة وخاضعة لقواعد السوق بشكل دائم مستقبلاً.


الأهم من هذا كله أنه سينشأ بالضرورة وفر في استهلاك كل شخص وفقاً لاختياراته ومفضلاته الخاصة، كما سينتج  وفر آخر عن استثناء المواطنين الأغنى ماديًا من الدعم ، وهذا يمكن ترجمته من الأساس لخفض قيمة الدعم نفسها كرقم إجمالي، وبالتالي نحقق انخفاضًا في الموازنة مع درجة رضا عالية لغالبية المواطنين الأكثر فقرًا، مع درجة أعلى من الترشيد في الاستهلاك، بالإضافة لتحرير الأسعار.


وفي جميع الأحوال فإن اعتياد المواطن على دفع تكلفة لاختياراته قريبة أكثر من تكلفتها الحقيقية هو ما يقود لإمكانية القيام  بخفض عدد المستفيدين من هذا الدعم من الشرائح الأعلى تدريجيا، أو خفض قيمة البدل النقدية مع الوقت؟


المشكلة الوحيدة التي تعرقل مثل هذه الخطوات هي المشاكل المرتبطة بحجم المعلومات المتوافرة عن الحالة الاقتصادية لكل أسرة، وهذه نقطة يمكن حلها في وقت قصير لو توافرت الإرادة.


الرئيس صرح من قبل بأنه خلال عامين من رئاسته سيشعر المواطن بانتعاش اقتصادي محسوس، هذا الانتعاش لن يحدث في وجود الشكل الحالي من الدعم، وبالتأكيد لن يحدث عند إلغاء الدعم فجأة، ولكن بالتأكيد سيشعر به المواطن عندما يجده تحول إلى مبلغ مالي يحصل عليه وبالأخص المواطن الأكثر فقرًا.