فوجئت وفُجعت عندما قرأت لمن يدعي أنه أحد أصحاب الرأي يكتب عن رغبة أهلنا في النوبة في الانفصال عن مصر، ولم تكن صدمتي بسبب أن أهل النوبة يريدون ذلك الانفصال؛ لأن هذا درب من الخيال "السخيف"، لم يأت على بال أحد من النوبيين.

صدمتي كانت في هذا الشخص الذي اعتقد أنه لم يذهب إلى النوبة، ولم يلتق بأهلنا النوبيين، ولم يدخل بيت نوبي في حياته.. لأنه إن حدث، كان سيرى مصر القديمة.. مصر الحضارة بكل معنى الكلمة في البيت النوبي الأصيل .

دعوني واسمحوا لي أن أوضح لكم بكلماتي القليلة البسيطة من هم النوبيين التي لن تعط لهم قدرهم وحقهم في الوصف.. بل أوضح لهذا المأجور ما جهله عن النوبة.. ولن اذكر اسمه.. فالمقال الذى يحوى كلمة النوبة لايليق أبدًا أن يذكر فيه اسم أي شخص أهانها أو أساء إليها.. فالنوبة أرقى من أن يجاورها أي جاهل أو مرتزق.

ذهبت إلى النوبة كثيرًا ومازلت أذهب، وسأظل أذهب إليها وأرتوي من ريان أصالتها. من يسير فى جنبات أرض  الذهب يري مصر بكل ملامحها . ماضيها وحاضرها و مستقبلها .

ترى ملامح المصري القديم التي رسمها أجدادنا على المعابد والجدران العريقة تتجسد أمامك حية ترزق في وجه رجل طيب يقدم لك التحية الدافئة عند تطأ قدمك ترابها.

ترى هذه الملامح تتجسد بشرًا سويًا أمامك عندما ترى سيدة تملأ روحها القوة والحنو والحكمة وهي تمدك بكوب الشاي الدافيء بعد عناء سفرك وترحالك.

شاب خفيف الظل منطلق الروح والآمال يسرد لك قصة حفر بحيرة السد، والتي بدورها تحكي لك ملحمة أجدادنا من النوبة وأجسادهم الطاهرة التي روت دمائهم أرض البحيرة وكانت مستقرهم الأخير عند استشهادهم لتبق مصر بمستقبلها وأجيالها القادمة.

تشاهد مصر العريقة الأصيلة في كل بيت نوبي تدخله، فالبيت النوبي من أكثر البيوت المصرية التي حافظت وبشراسة وقوة على التراث المصري والعادات الراقية المصرية التي خطها المصري القديم على جدران معابده وبردياته الثمينة.. عادات الزواج واحترام الآخر، وتقديس الأرض والسماء والنيل، عادات و قوانين ودساتير المجتمع المتقدم الذي مازال يؤخذ منه في كل دول العالم؛ ليتعلموا كيف تكون الحضارة .

تشاهد فى النوبة وتتذكر حرب أكتوبر العظيمة التي بفضل عمنا الحاج أحمد ادريس والذي كان جنديًا عتيدًا في جيشنا المصري في ذلك الوقت، وصاحب فكرة الشفرة النوبية واليت استخدمت تلك اللغة في تضليل العدو، واسترجاع أرض الفيروز سيناء.. فالنوبة في الجنوب حمت سيناء في الشمال..وكيف لا ونحن نسيج واحد، أصل واحد، اسمه مصر .

تشاهد في النوبة أستاذنا الأديب العالمى حجاج آدول، الذي خط بقلمه ورسم ملامح مصر من شمالها إلى جنوبها، ونسبح معه في رواياته في حب مصر، وشوارعها، ومدنها، وقراها، وماضيها وحاضرها وملامح أهلها عبر الأزمنة.

تشاهد في النوبة الفنان العالمي والموسيقي المتميز حمزة علاء الدين أول من غنى على مسرح الأمم المتحدة.. غنى للسلام ولمصر وللإنسانية، وغنى معه العالم ومازال يغني لها على ألحانه وصوته.
تشاهد فى النوبة فتيات وسيدات يحملن صفات حتشبسوت ونفرتيتى في الجمال والقوة، والحكمة والقدرة على إدارة الأمور، تشاهد فى النوبة الكثير والكثير من ملامح مصر الأصيلة الجميلة القوية .

الكثير والكثير من شخصيات النوبة التى لا يسع ذكرها في مقال، بل تحتاج إلى مراجع وكتب كلها تؤكد وتؤصل دور النوبة فى مصر و أنها أصلها و تفاصيلها .

نعم للنوبيين حقوق لم ولن يغفلها أحد.. ولن تضيع حقوقهم طالما هناك من يحبها وهناك من يعرف قيمتها وتاريخها، ومطالبتهم بحقهم لا تعني أبدًا انفصالهم.. لكنها مطالب الابن من الأب .. الابن الذي يعى تمامًا قدر أبيه كما يعي تمامًا قدره ومكانته عند أبيه.. الوطن مصر .

يا من تدعى على النوبيين ماليس فيهم.. اعرفهم أولا قبل أن تتجرأ فى الكتابة عنهم وبلسانهم. وعندما تتحدث عن النوبة فلتأخذ الإذن الأول من كل فرد فى مصر حتى يسمحوا لك.. إن سمحوا.

أيها الغريب.. أكرر أيها الغريب.. فالقريب يعرف أصول الأدب في الحديث قبل البدء فيه.. من يقترب من النوبة جيدًا يرى بكل معانى الكلمة أن النوبة هي مصر .. ومصر هي النوبة، روح فى جسد.. وجسد يحمي روحاً .. لا ينفصلا إلى أن تزول الأرض ومن عليها .