التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 05:47 ص , بتوقيت القاهرة

فلنجرب السياسة من أسفل إلى أعلى

مصر هي أقدم دولة مركزية في العالم، ويمثل الدور الكبير الذي تلعبه مؤسسات الحكم المركزية أحد الملامح الأساسية لنظامها السياسي منذ قام الملك مينا بتوحيد القطرين حوالي عام ‏3200‏ قبل الميلاد. الدولة المصرية نشأت للقيام بمهمة مركزية وهي التعامل مع مياه نهر النيل. ونتج عن ذلك مركزية في صنع القرار يقوم بها الملك/الرئيس، والوزراء، وكل يعمل من العاصمة. هذه المركزية ما تزال تعيش معنا إلى اليوم.


هذا النمط من السياسة "من أعلى إلى أسفل"، ساعد بالتأكيد على بلورة هوية وطنية متجانسة‏، وعلى تنفيذ العديد من المشروعات القومية، إلا أنه  من ناحية أخرى أدى إلى إضعاف المكون المحلي في صنع وتنفيذ السياسة‏، أي "السياسة من أسفل إلى أعلى".‏


معظم دول العالم تتبنى نموذج "السياسة من أسفل إلى أعلى" في ضوء التحديات التنموية التي تواجهها، والتي تعجز الحكومة المركزية وحدها عن الوفاء بها بالشكل الأمثل‏، وكذلك الحاجة إلى تنمية آليات الديمقراطية على المستوى المحلي، فالمحليات هي الأقدر على التعرف على احتياجات المواطنين واقتراح وتنفيذ السياسات للتعامل معها‏،‏ كما أنها اللبنة الأولى في بناء الديمقراطية‏، والآلية الأساسية لاكتشاف وإعداد القيادات السياسية‏.


نحتاج لرؤية شاملة لتطوير دور المحليات‏ تقوم على مفهوم أنها أصل السياسة‏، والدائرة الأولى التي يُمكن للمواطن أن يُشارك من خلالها في صنع القرار‏. ويتطلب ذلك إعادة النظر في المجالس الشعبية المحلية سواء من حيث الاختصاصات والأدوات الرقابية التي تملكها، وأيضا الطريقة التي يتم بها انتخاب أعضائها ونوعية المرشحين لمقاعدها‏، ومن المهم أيضا إعادة التفكير في العلاقة بين المجالس الشعبية المحلية والمجالس التنفيذية‏ (‏وهي المجالس التي تضم المسؤولين التنفيذين على المستوى المحلي‏)‏، وذلك بهدف تحقيق توازن بين سلطات واختصاصات المجلسين‏،‏ وبحيث لا يطغى دور المجالس التنفيذية على المجالس الشعبية‏ المنتخبة.‏


كذلك لا يُمكن الحديث عن نقل سلطات مركزية للمحليات دون أن يصاحب ذلك تمكينها ماليا ودعم قدراتها على التمويل الذاتي‏، لذا من المهم تمكين المحليات من لعب دور أكبر في وضع أولويات الموازنات المحلية، وأن يكون لها نصيب أكبر من بعض الضرائب ذات الصفة المحلية‏، وزيادة قدرتها على تدبير موارد مالية ذاتية وفرض رسوم ذات طابع محلي، فبدون تمكين مالي للمحليات سوف تظل السلطات التي تنتقل إليها مجرد نصوص نظرية‏.‏


يصعب أيضا نقل سلطات المركز إلى المحليات في ظل ضعف الكفاءات البشرية المحلية، التي قد لا تستطيع التعامل مع إدارة هذه السلطات‏،‏ وهو ما يتطلب حسن اختيار القيادات المحلية، ووضع برامج لتدريب الكوادر التنفيذية والشعبية على كيفية أداء أدوارها الجديدة‏،‏ ووضع الحوافز المناسبة التي تشجع العناصر المؤهلة على الانضمام للأجهزة المحلية والاستمرار فيها.


"السياسة من أسفل الى أعلى" لا يجب أن تقتصر فقط على تمكين المحليات، ولكن لابد أن تتضمن أيضًا دعم دور منظمات المجتمع المدني، وخاصة تلك التي تعمل فى المجالات التنموية، وإطلاق عنان المبادرات الفردية في كافة المجالات، وخاصة الاقتصاد.


"السياسة من أسفل الى أعلى" لن تؤدي إلى إضعاف الدولة كما يدعي البعض بل ستؤدي إلى زيادة فاعليتها وتجديد شبابها‏.‏