الواعظ والداعية والعالم
حتى مطالع الثمانينات لم يكن المصطلح الراسبوتيني المراوغ "داعية" متداول إعلاميا لتوصيف مهمة الواعظ الديني، أو حتى وصف عمل من نالوا درجة جامعية في الدين وموضوعاته من جامعة الأزهر. كانت كل الأشياء موضوعة في نسقها المنطقي الذي يتفق وطبيعتها دون مبالغة أو تهويل. مات الشيوخ محمد عبده والمراغي وشلتوت وعبد المنعم النمر وبيصار والباقوري وجاد الحق وغيرهم دون أن ينالوا حظ وُعَّاظ السلفية الوهابيه أبناء مدرسة القصيم ورابغ وخميس مشيط السعودية، لم ينالوا حظهم بأن يسبق اسمهم اللقب الساحر الأخاذ " الداعية".
تاريخ المصطلح الوهابي "داعية" يقودك إلى التساؤل؛ ماذا تعني كلمة داعية معجميًا ودلاليًا؟. يفسر معجم المعاني الجامع كلمة داعية بأنها " الجمع دُعاة أو دواعٍ وهو الرجل الذي يدعو إلى دين أو فكرة" وظاهر المعنى يساوي بين المعنى الاصطلاحي والوظيفي للداعية وال Missionary أو المُبشر في المسيحية وهو رجل دين يُكَرس حياته للتبشير بالمسيح في البلاد التي لم تدخلها المسيحية، كبعثات التبشير والإرساليات إلى إفريقيا وآسيا البوذية.
واقع الحال يقول إننا جميعًا مسلمون، لسنا بحاجة إلى داعية بالمعنى الدلالي للكلمة، ليُدخلنا إلى الإسلام ثانية، أو يدعونا إلى مُعتقد جديد فنحن بالفعل على مِلة الإسلام كما كان أباؤنا وكما سيكون أبناؤنا، قد نكون بحاجة إلى واعظ ديني، أو شيخ حظى بشهادة في التعليم الديني لشرح الأمور الدينية وبخاصة المعاملات، التي هي التطبيق الحياتي والقيمي لجوهر الإسلام، وكذا تفسير ما التبس من الشروح والمعاني والحواشي والمتون التراثية المعقدة والمُلغِزة، لشيوخ آخرين سبقوهم في الشرح خلال العصور الوسطي كابن تيمية وكل ابن فلان رفعته السلفية إلى مراتب العصمة والمنعة.
نحن بالتأكيد لسنا بحاجة إلى مُبشر أو داعية سواء كان هذا الداعية سلفيًا وهابيًا يرتدي أبيض في أبيض ويعتمر الغُطرة الخليجية البيضاء علي رأسه، بشارب محفوف ولحية مُرسلة تنبت من خدوده حتى منتصف صدره، أو كان داعية مودرن من الشباب الذين يرتدون الجينز ويطلون من خلال البرامج ليقدموا لجمهور الطبقة الوسطي وسيدات المجتمع المخملي والشباب، إسلاما استهلاكيًا تلفزيونيا بالكاتشاب والدريسينج الفرنسي مثل موضات الحجاب الإسبانيش هذا إن كانت أسبانيا لديها حجاب إسبانيش من أساسه.
نحن مسلمون لا مِراء في ذلك، وقد جنبتنا وزارة الداخلية عناء البحث عن نوع الفصيلة الطائفية بخانة عُنصرية وطائفية في بطاقات هويتنا تسمى خانة الديانة. تتفاوت درجة تديننا زيادة ونقصانًا، لكننا في أول الأمر وآخره مسلمون، وقد استخدمت لفظة تديننا وليس إيماننا عن عمد، لأن الإيمان كان وسيبقي حالة قلبية وروحية لا يمكن قياسها بتتبع الظاهر من الأفعال، بينما التدين هو تلك الحالة البائسة التي انتهينا إليها بعد أربعين عاما من فورة غول الأصولية الدينية في مجتمعاتنا، ليصبح التدين مجرد حزمة عريضة من شكلانيات العبادات التي لا أثر لها في المعاملات اليومية لجموع المسلمين، فالمجتمع كله أصبح يمتلك زبيبة سوداء في جبهته، والمرأة المصرية منذ الثمانينات أصبحت تضع غطاءً على رأسها وأحيانا شادور إيراني أسود كنقاب، والمجتمع المصري تخلى طواعية عن عاداته وخصوصيته الثقافية المصرية لصالح الغزو السلفي الوهابي المتخلجن، الذي احتل العقول قبل أن يسلبنا مصريتنا، فالسُبوع المصري للمولود أصبح عقيقة، ومناسبة جديدة للذبح، والأعياد المصرية كشم النسيم ووفاء النيل وعيد الحصاد والتقويم المصري بل وحتى المولد النبوي أصبحت من تصرفات الجاهلية.
الإحصائيات تقول إن ما يقرب من 15 مليون مصري قد أدوا فريضة الحج وما يقرب من 25 مليون مصري أدوا العمرة وبعضهم أداها لمرات عديدة، وأن مصر بعدد سكانها الضخم قد أنفقت في عشر سنوات ما يتجاوز 160 مليار جنيه على رحلات العمرة والحج ذهب جزء كبير منها ضخًا في الاقتصاد السعودي. لماذا إذن لا ينعكس هذا الوله الديني إيجابًا على مُجمل المحصلة القيمية والأخلاقية لمجتمع يعاني من انفلات في المعاملات، رغم التصاقه الحميم بالعبادات من صلاة وصوم وتفاخر بالعمرة؟ لماذا لم تنتج تلك الحالة دولة فاضلة تقدس العمل والنظام والنظافة واحترام الوعد وحق الطريق والمجتمع والجار؟ ولماذا يصبح بالإمكان رؤية هذا النموذج الفاضل ماثلاً للعيان في اليابان وسنغافورة والسويد والنرويج، ولا نراه في مجتمعات تُكرس كل وقتها للحديث عن الله والفضيلة وتجلس كل جمعة أمام واعظ غاضب يجلدها بتهم البُعد عن الله والانشغال بأمور الدنيا الفانية!؟
ما الذي يجعل شعبًا بهذه اللهفة الدينية التى تصل في بعض الأحيان إلي درجة الهوس، بحاجة إلى رجل كمحمد حسان خريج كلية الإعلام الذي لا يمتلك مؤلفًا واحدًا في الفكر الإسلامي أو عقلنة الفكر الديني؟ ربما يمتلك الرجل قدرات خطابية وكاميراتية أخاذة فهو من جيل رواد مسرحة الخطبة بالبكاء والنهنهة، وتنويع طبقات الصوت، لكن ذلك لا يدعو مطلقا إلى الشوق إلى قناته التلفزيونية الخاصة التي ما انفك يلح عليها كأنها أم القضايا، وتتساءل لماذا يصر الرجل على فرض شرعية الكاميرا والميكرفون علينا؟ لماذا لا يعتكف ويعكف على كتابة مؤلفات من بنات اجتهاده في الفكر الإسلامي كالشيخ محمد عبده والشيوخ شلتوت والمراغي والباقوري وعبد الحليم محمود وغيرهم ممن تجرد ناسكًا زاهدًا لأجل الدين.
ثم لماذا يحذر محمد حسان الشباب والمختلفين معه ومع تياره من التجرؤ على العلماء؟ ومن هم العلماء ومن الذي منحهم هذه الصفة؟ شخصيًا لا أعرف سوى العلماء الذين يحج إليهم الشيخ في لندن وباريس للتداوي من مرض ألم به، فالشيخ بالطبع لا يداوي نفسه بالحجامة وبول الإبل والرُقيا، وإنما يتحرى الشفاء عند العلماء الحقيقين ببلاد الغرب المسيحي. شخصيًا لا أعرف سوى العلماء الذين انحنت ظهورهم في المعامل لاختراع مصل لشلل الأطفال والملاريا أو دواء لفيروس سي أو موبايل سمارت فون وسيارة وأيباد كالتي يستعملها محمد حسان وياسر برهامي وحجازي محمد يوسف شريف الذي إختار لنفسه اسم وكنية وهابية وهي "أبو إسحاق الحويني" خريج الألسن أسباني وغيرهم من شيوخ السلفية أطباء التحاليل والأسنان وغيرها من المهن التى تلاشت أمام بريق الغطرة والجلباب الأبيض والسواك.
ما الذي يجعل هذه الطائفة من الوعاظ التلفزيونيين يتحرقون شوقًا لمجرد غياب الكاميرا والميكرفون عن وجوههم؟ لماذا لا ينقطعون للفكر الديني في تجرد وزهد ويتركون ما تتمخض عنه قرائحهم من اجتهاد حقيقي يتحدث عنهم؟ لماذا لا ينتجون اجتهادًا فكريًا أصيلًا وتجديديًا وليس مجرد مُؤَلّف نقلي قص ولصق من كتب التراث ككتاب " تسلية الكظيم بتخريج أحاديث تفسير القرآن العظيم" للسلفي أبو إسحاق الحويني؟ لماذا لا يأخذ شيوخنا الأجلاء أو "علماؤنا" كما يحبون تسمية أنفسهم استراحة محارب أو تايم أوت ويفسحون المجال للمجتهدين الحقيقيين كالدكتور سعد الهلالي وغيره من علماء عقلنة الفكر الديني؟ لماذا لا ينسحبون بترفع وزهد دون أن يتهموننا بتهمهم المعلبة من نوعية " قطيع العلمانيين" أو يرمون مخالفيهم بالإلحاد والزندقة وخلافه لمجرد طرح المسلمات التراثية علي مائدة البحث.
مصر ليست بحاجة إلى تخريجات العثيمين وابن باز والعريفي وآل شيخ، مصر بحاجة إلى إسهامات زويل وفاروق الباز وعصام حجي، مصر بحاجة إلى مراكز بحث علمي وليس منصات إنتاج لآلاف الفتاوى التي وصلت إلى غرف نومنا ومراحيضنا.
إن كنا ننوي اعتبار توصيف كلمة "عالم" قُبعة بالريش نضعها على رأس محمد حسان ورفاقه نفاقًا ورياءً لحالة الهوس الديني، فسينتهي بنا الأمر إلى منح أحمد زويل وظيفة فني معامل، ومنح خبير الأنفاق هاني عازر وظيفة عطشجي بسكك حديد مصر، انتظارًا لحلول إعجازية من علماء الغطرة والدشداشة لأمور دنيانا التى من المفترض أننا أعلم بها من حسان وبرهامي وباقي فرقتهم الناجية.