الجيش المصري أو الميليشيات!
جَلستنا كانت بمقهى قريب من شارع البحر الأعظم بالجيزة.. رواد المكان مثقفون وحرفيون ومهنيون وأيضًا بسطاء الناس.. فجأة مرت مُدرّعة أمام ناظرينا فصاح صبيّ القهوة: "تحيا مصر" .. استوقفني المعنى قبل الشعار.. فقد لاحظ هذا المراهق الذي يكدُّ طوال اليوم ليُنفق على أسرته أن بلدنا مازالت مُحتفظة بكيانها وقوامها ووحدتها لأن لها جيشًا واحدًا.. لم تتسلل إليها ميليشيات وجيوش صغيرة.. المدرعات والدبابات وناقلات الجنود والمجنزرات في شوارعنا تعني أن مصر بخير وأن جيشها مازال يحميها ويحرسها.. بجوارنا بلاد إذا حدث نفس المشهد فيها سيتساءل الناس لمن هذه الآليات؟!
في اليمن مثلا سيحتارون إن كانت تابعة للحوثيين أو لأنصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح أو هي لتنظيم القاعدة أو ربما تابعة للمقاومة الشعبية الموالية للشرعية.. وإذا انتقل المشهد إلى العراق سيتحول الاستفسار إلى هل المدرّعة أو الدبابة تابعة لقوات الجيش الشعبي أم الجيش العراقي أو داعش أم تابعة للبشمركة الكردية.. ونفس الحالة إذا عبرنا حدودنا الغربية وانتقلنا إلى ليبيا ومرت مدرعة مماثلة أمام جمع من الناس، فلابد أن يتساءلوا إنْ كانت تابعة للزنتان أم لفجر ليبيا أو الجيش الوطني وحفتر أو ربما تكون إحدى المُدرّعات التي استولى عليها "داعش".. وإذا كنت في لبنان فلن تعرف إن كانت لحزب الله أم للجيش اللبناني الرسمي أم للكتائب.. أما سوريا فهي الأسوأ على الإطلاق والاحتمالات فيها تفوق المائة عن تبعية المدرعة.
من ثم فإنّ ما أريد قوله إن رؤية مدرعة أو دبابة مصرية إضافة إلى أنه سيبعث فيك شعورًا بالاطمئنان بأن هناك من يحرسك أو من يتصدى لمن خرج للاعتداء عليك، فإنه أيضا وبنفس القدر من الأهمية ينقل إليك إحساسًا بأنه لن تكون هناك مدرعة أخرى لتواجهها على أرض مصر.
إن السر الحقيقي وراء هجوم فضائيات وصحف وميديا على القوات المسلحة يكمُن في أن الجيش يشارك في التنمية الاقتصادية والمشروعات في مصر، وبالتالي فإنه بحسب منطق رجال الأعمال "يقفل" عليهم ويمنع السبوبة والعمولات والذي منه.. هذا هو الاعتراض الأساسي على القوات المسلحة.. وهذا هو السبب وراء الهجوم المباشر وغير المباشر على نظام الحكم الذي تتصور مافيا رجال الأعمال أنهم طالما ساندوا ثورة 30 يونيو في البداية، فلا بد أن يحصلوا على الثمن! لا تحدثني عن الوطنية والتراب المقدس ودماء الشهداء.. أمام الفلوس تخضع الرؤوس.. وهذا هو الفرق بين رجال الأعمال والجيش.. المكسب أولا أم الوطن أولا؟!
لقد أسعدتني جملة "تحيا مصر" التي قالها القهوجي في بداية المقال؛ لأنها عكست اعتقاد المصريين أنهم أصبحوا طرفًا أساسيًا إلى جانب الدولة في محاربة الإرهاب.. وهذه هي بداية الطريق لإنهاء العنف والترويع.. المصريون أدركوا أن المسألة ليست حالة داخلية أو أزمة تقتصر على بلدنا، وإنما هي جزء من منظومة دولية تستهدف مصر وتريد تحويلها إلى دولة تتنازعها الميليشيات ويسهل تقسيمها إذا انزوى جيشها وضعف.. إن الذين يرددون يسقط حكم العسكر في هذا التوقيت بالذات يطالبون في الحقيقة بسقوط مصر.. فعندما سقط الجيش العراقي سقطت الدولة وكذلك سوريا ولبنان واليمن.
إن الغموض وإن شئت التكاذب في أنحاء الوطن العربي حاليا هو سيد الموقف.. كلنا نساق إلى أن الميليشيات ستكون بديلا للجيوش في منطقتنا.. وهذا ما يُدركه نظام السيسي ويسعى جاهدا حتى لا يحدث.. إن الميليشيات في المنطقة العربية خطرها لا يكمُن في التقسيم فقط، ولكن في إذكاء الطائفية واستحضار تاريخنا المليء بالحروب والثأر والانتقام.. فـ"داعش" مثلا يراد له أن يمثل طلائع دولة بني العباس التي تسعى للثأر من قتلة آل البيت.. وجيش الفتح ينبغي أن يكون دولة بني أمية التي تدافع عن حقها السليب.
تبا لنا لو كان هذا هو المصير الذي ينتظر العرب.. وسحقا لمن يحاول تشويه صورة جيش هو الوحيد الباقي في العالم العربي بحجة الديموقراطية والحكم المدني ومصطلحات الربيع العربي التي جربها العرب ثلاث سنوات فماذا كانت النتيجة؟ لا أقبل أن أجلس في العراء أنتظر طائرات التحالف وهي تلقي موادا غذائية للمصريين إذا ما أصبحوا لاجئين ومشردين.. اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعقلون!