التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 01:56 م , بتوقيت القاهرة

رسالة من د. فرج فودة

إلى ولدي ياسر، الذي لم أدخر له إلا المخاطرة. إلى زملاء ولدي الصغير أحمد، الذين رفضوا حضور عيد ميلاده، تصديقًا لمقولة آبائهم عني، إليهم حين يكبرون، ويُدركون أنني دافعت عنهم وعن مستقبلهم، وأن ما فعلوه كان أقسى عليّ من رصاص جيل آبائهم.

تعلمون كيف كنت في حياتي الخاصة، ومع أصدقائي شديد الوداعة والطيبة. انصرمت سنوات عمري في دراسة الاقتصاد الزراعي، وهُيئ لي أن أحصل على الدكتوراه، وكان قُصارى ما أتمناه، أن أؤلف في مجال تخصصي، وأنصرف إلى المهنة التي عشقتها بكل جوارحي "مهنة التدريس".

ولأن معظم النار من مُستصغر الشرر، وكثير من الظواهر التي نشهدها اليوم بدأت بتصرفات فردية أهملناها فنمت، وهوّن البعض من شأنها فزادت، وزايد البعض عليها فانتشرت.. شعرت أن هناك ما يُهدد ذلك الذي أحيا من أجله، وأستمد وجودي من وجوده، وهو الوطن.

لذا فقد اخترت أن أنصرف إلى القراءة والدراسة، والبحث في مجال جديد، دخلت بسببه في خضم معارك عنيفة وحادة، ونقلني إلى مشارف المخاطرة، ووضعني في موقف العداء للتيار الديني العريض والعنيد، وأسمعني ما لم أتوقع في حياتي تنديدًا وتأييدا، حتى أصبح اليوم الذي لا يصلني فيه منهم تهديد يوم ضائع، والصباح الذي لا تكتحل عيناي فيه بهجوم شديد دليل قصور.

ورغم ذلك كنت أرقص طربًا لأنني أُوجعهم بما أكتب، وأثيرهم بما أجتهد، ومادام رد فعلهم سبابًا وقذفًا فمعنى ذلك أن منطقهم أعجز عن الرد، وأهون من الحوار، وأقصر من التصدي.

لقد سُررت حين وجدت اسمي في الترتيب الثالث على قوائم الاغتيال لدى تنظيم "الناجون من النار"، ولو لم يحدث ذلك لشعرت بأسى شديد، فالشجاعة تُقاس بعدد الجبناء، والسمو يُقاس بعدد الوضعاء، والرصاص هو التعبير العنيف عن منتهى الضعف، وحين سألني أحد الصحفيين عن تعليقي أبديتُ منتهى الحزن والأسى على تأخر ترتيبي إلى المركز الثالث، ووعدتُ أن أبذلَ قصارى الجهد حتى أحتل المركز الجدير بي في المقدمة.

ليس في الأمر شجاعة مني بقدر ما فيه من منطق، فالموت أهنأ كثيرًا من العيش في ظلم فكرهم العيي، ومنطقهم الغبي، وأن يفقد الواحد منا حياته، وهو يدافع عن وحدة وطنه، أشرف كثيرًا من أن يعيش في وطن ممزق للمرة الأولى في تاريخه، وإنْ يُضحي الواحد منا بالسنوات الباقية من عمره أشرف كثيرًا من أن يقضيها تحت حكم من يُفضلون ركوب الناقة على ركوب السيارة، أو من يذهبون لقضاء الحاجة في الخلاء. فالقبر أهون، والاستشهاد أفضل، والجهاد ضدهم، حتى يقضي الله أمرًا، كان الاختيار الصحيح لي والمريح.

إلى القارئ بعد زمان طويل؛ اقرأ لنا وتعلَّم كيف نحتنا بأقلامنا عصر تنوير جديد، وكيف كانت الكلمات أقوى من الطلقات، افهم ما فهمناه من حكمة الله، حين شاء أن تكون أولى كلماته في الإنجيل "في البدء كانت الكلمة"، وفي القرآن "اقرأ".

لقد كتبنا ما كتبناه ونحن غارقون في اتهامات التكفير، ومحاطون بسيوف الإرهاب والتهديد، ويقيننا أنه سوف يأتي منكم من يكتب ما هو أجرأ وأكثر استنارة، في مناخ آخر أكثر حرية وانطلاقًا وتفتحًا. حينها سوف تكتشفون وأنتم تقلبون أوراقنا، ونحن ذكرى، أننا دفعنا الثمن.

وأنه ليؤرقني أشد الأرق أن لا تصل هذه الرسالة لمن قصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة وقصاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا محبي الحكم.

إذا كنا نتحدث عن حقائق موضوعية فلتعلموا أن نشأة الإرهاب مرتبطة بعقيدة التنظيم السري للإخوان، وتعذيب "عبد الناصر" لهم لم يكن سبب النشأة، وتوقيته لم يكن توقيتها، فما كان "شكري مصطفى" إلا متبعًا، وما كان مبتدعًا، وما كان لـ "سيد قطب" إلا دور المنسق، لحدائق يانعة ومثمرة، قطوفها دانية، وزهورها حمراء قانية، تسر الإرهابيين، وتُزعج من له قلب مفعم بحب الدستور، أو ألقى السمع لنصوص القانون.

لقد أثبتت تجاربي أن تيار الإسلام السياسي تيار واحد، مهما بدا بين أفرعه من تناقضات، وأن الأمر دومًا ينتهي إلى ما بدأ به، فقد كان الإخوان قبل الثورة يؤمنون بتقسيم العمل، الهضيبي للاعتدال، والسندي للاغتيال، والسيد للفتوى. فالتنظيم السري عليه القتل، والبنا عليه الاستنكار، وهو نفس ما يحدث اليوم، مع إضافة بعد جديد وخطير، وهو المال.

وهكذا تتعدد الأشكال، ويختلف الرجال، لكن الأفعال تظل نفس الأفعال، والموال في النهاية نفس الموال. فالمطلوب كان دوما أن يتشتت ذهن المتفرج وهو يرى الجهاديين يغتالون، والإخوان يصمتون، وأحيانا يستنكرون، وأصحاب المال منهم ينفقون، فلا يدري من يؤيد ومن يعارض.

إن الإرهاب لا يعيش ولا ينمو إلا في ظل الديماجوجية، وإلا عندما تفقد القدرة على التمييز بين الإرهاب والشرعية، وإذا كان البعض منا يختلط عليه الأمر فيؤيد الإرهاب من منطلق العداء للداخلية، أو يهاجم الضحايا من منطلق الكراهية للنظام، فكيف يكون حال الشعب الذي يقرأ لنا، ويتلقى عنا ويتوقع أن يعرف منا؟! فما دام الوعي غائب، أو إلى غياب، وما دام أعضاء النقابات يعتصمون، ليس استنكارًا له، وإنما استنكارا للتعامل معه وللرد عليه، فسيظل ذلك مدخلاً خطيرًا لتنامي الإرهاب.

وإذا كنا لا نريد أن ندفن رؤوسنا في الرمال، وأحسب أن أوضاع الحاضر لا تسمح بهذا الترف، فإن علينا أن نواجه حقيقة قاسية؛ أن التاريخ يُحدثنا أن الإرهاب قد انفجر وتلاشى واندثر حين تمت مواجهته بنفس أسلوبه، فمسلسل الإرهاب الصاعد المتتابع في نهاية الأربعينات قد انتهى فجأة باغتيال حسن البنا نفسه، بعدها هدأت الأحوال، وتوقف مسلسل الاغتيال.

وهذا درس وعاه "عبد الناصر"، فرد عليهم، حين عادوا، إرهابًا بإرهاب، ورأسًا برؤوس، وعنفًا بعنف أشد، فكانت النتيجة عشر سنوات هادئة، بينما اغتالت الرصاصات من أخرجهم من السجون، وتركهم يصدرون الصحف والمجلات، أقصد به السادات.

وختامًا لا أطلب منكم سوى وحدة الصف في مواجهة اختبار الوجود، فالله والوطن لن يغفرا لأحد تقاعسًا أو تراجعًا أو جبنًا، فما بالكم إن زايد أو تملق أو تحالف.

وقى الله الكنانة شر هؤلاء وأولئك، وحماها من ردة حضارية تأخذ بتلابيبها، ونصرها وأبقاها منارة للحضارة والاستنارة.  د. فرج فودة. مصر الجديدة. 30 – 6 – 1978

ملحوظة: كل ما جاء في الرسالة أعلاه منقول حرفيًا من مجموع كتابات شهيد الكلمة، لم أتدخل فيه سوى بالترتيب، وبإضافة بضع كلمات بهدف ربط الجمل أو الفقرات.

هذا المقال نُشر في "دوت مصر" بتاريخ 13 يونيو 2014.

 

اقرأ أيضا