ميراث المصطبة في حُكم مصر المعاصرة
فروق كثيرة بين مهندس مشروع "العمال الجديد" في بريطانيا، جوردون براون، وبين صاحب المشروع، توني بلير. أبرزها بلاغة توني بلير. قدرته على إيجاز ما يريد في كبسولة، وعلى أن تكون هذه الكبسولة محتوية على كل ما يشفي حاجة مستمعيه، بلا إفراط ولا تفريط. وبلير، مجدد حزب العمال الاشتراكي، ورث بلاغته عن مارجريت ثاتشر زعيمة حزب المحافظين الاستثماري (الرأسمالي).
بلاغة الأخيرة غيرت مسار الحياة السياسية في بريطانيا، ليس في وجه خصومها - مثل أسلاف بلير - فحسب، بل في وجه كبراء حزبها أيضا، الذين طالما سخروا من نبرة صوتها، لكنها شدهتهم بقوة منطقها. هل نحتاج إلى أن نحكي المزيد عن دور البلاغة في تغيير مسار الشعوب، دور بلاغة تشرشل وروزفلت في الحرب العالمية الثانية، تلك البلاغة المنطقية التي وقفت أمام بلاغة هتلر الشعبوية وجهازه الإعلامي العملاق. أم نحكي عن بلاغة نلسون مانديلا؟ أم نترك كل هؤلاء ونحكي عن بلاغة المعاصرين، بل كلينتون الإداري الفذ، وباراك أوباما، بائع القضايا التي لم يكن أحد في أمريكا يتخيل أن المجتمع الأمريكي يمكن أن يشتريها حاليا؟
ما هي البلاغة؟
البلاغة حالة ذهنية. تعكس طريقة في التفكير. قدرة داخل العقل على بلورة المواضيع، وهندستها، ومقارنة الأمثلة. هذه القدرة لا نراها. لا نرى أيضا قدرة أخرى داخل العقل على فهم مداخل ومخارج عقل المستمعين، وقيادة الأفكار في هذا الطريق. لكننا نرى ما يصدر عن العقل، كتابة أو خطابة. نرى البلاغة.
والبلاغة ثقافة. تتكون في البيت والمدرسة والعمل والخطاب العام. أبناء المجتمعات الرغاية يندر فيهم البلغاء، موجودون لكنهم نادرون، قلة قليلة جدا استطاعت أن ترفع رأسها من تحت أطنان الكلام الزائد.
البلاغة ثقافة ترتبط بعلاقتك بمجرى الحياة من حولك. تتأثر بها وتؤثر فيها. أوقات الفراغ في الحقل، أوقات الفراغ في مكاتب العمل مع البطالة المقنعة. البرامج التليفزيونية الطويلة التي كلها عبارة عن شخص واحد يرغو وترغو، أو عن عدة أشخاص يرغون في نفس المواضيع كل يوم. كل هذا ينشأ من الرغي وينميه، في دورة مفرغة. إذ يأتي الدور على عادة الرغي لكي تزاحم وتكاتف وتزغد لتفسح لنفسها مجالا. فإن وجد الإنسان الرغاي في بيئة بلا رغي، أو في منصب لا ينبغي فيه الرغي، أصر عليه. التصق بالكرسي في مكتب مديره، أو أتى بمرؤوسيه ورغى معهم بالساعات.
الرغي متعة بالنسبة له ولها، نافذته ونافذتها لإبلاغ الآخرين أفكارهما عن نفسيهما. تعويض عن إحساسهما بأنهما لا ينجزان في الحقيقة بقدر ما يعتقدان، وما يدعيان أنهما ينجزان. ثم إنها علاج نفسي ذاتي لحالة الإحساس بأن الآخرين لا يقدروهما حق قدرهما. تلك الحالة - تعلمين - مستفحلة في مجتمعات الفشل.
عانت مصر منذ زمن الرئيس عبد الناصر من ثقافة المصطبة. عانت منها بشدة. كلام قيل بمفهوم المصطبة، وبمفهوم إرضاء مستمعي المصطبة، وبالتفكير في العواقب كما التفكير في عواقب حديث قيل على المصطبة، لكنه أودى بنا إلى كوارث. المصطبة مغوية، مغوية بأجوائها، ومغوية بمستمعيها. إذ مستمعو المصطبة قادرون على تعميق إحساس المتحدث بنفسه، يطيلون الجلوس لأن لا شاغل يشغلهم. إطالة الجلوس تعني إطالة الحكي، واختراع مواضيع، كما أنها تفسر لدى المتحدث بأنها دليل على أهمية وعظمة ما يقول. ثم التفسير يتحول إلى قناعة، والقناعة تتحول إلى مزيد من الحكايات للتعبير عن القناعة.
لا بد لهذه البلد أن تنتقل على كل المستويات من ثقافة مصطبة القرية إلى توقيت المدينة. من ثقافة اللغو القروي والتباهي بالذات إلى ثقافة المساواة المدينية بين النظراء. لا بد أن نربي أولادنا على هذا. ربما - يوما ما - يأتي من بينهم زعماء يقطعون العادة الناصرية العكاشية القروية في الرغي والتباهي بالذات، ويدعوا الفرصة للإنجازات لتتحدث عن نفسها.