كيف علمتنا المجيدةُ الصلابةَ
(1)
في مساء 29 يناير 2011 كنا أمام العمارة في أول يوم من أيام اللجان الشعبية. الجميع متوتر مذهول لا يثق فيما يحدث. نتداول ضمن الكلام أحاديث عن جماعات من اللصوص تقتحم أحياء كثيرة ( كنا نعرف كناضجين أن الكذب سيختلط بالحقيقة، وأن المبالغة سمة مصرية أصيلة كما نعرف أيضاً أنه لا دخان بدون نار ).
فجأة بدأت أصوات لاهثة كثيرة تأتي من ناصية ليست بعيدة تعلو كل لحظة مع دبيب هرولة يتصاعد وقعه.. تحفزنا (الواقفين في اللجنة الشعبية مساء 29 يناير 2011 ) شد كل عصاة.. حتى ظهر عدد كبير من شباب صغير السن أسمر البشرة في أغلبه يندفعون جريًا نحونا. فما كان من أول مستقبليهم ( شاب مندفع ) إلا أن عاجل طليعتهم بضربه سريعة حاسمة على صدره أوقعته فورًا فبدا نحيلاً واهنًا. بعد أن تم الإمساك ببعضهم وفر الآخرون ذعرًا.عرفنا أنهم ليسوا لصوصًا بل مجندين من معسكر أمن ليس بقريب تم اقتحامه وتخريبه ونهب محتوياته.
سألناهم طب جيتوا بالشكل ده ليه ؟ وليه مش بالراحة وقلتوا لنا إحنا عساكر وإحنا كنا نحميكوا، قال مجند منهم، ما إحنا عملنا كده عند ناس كانت واقفه عند قسم تاني مدينة نصر أول ما قلنا احنا عساكر جريوا ورانا وضربونا ومسكوا مننا ناس وإحنا مش فاهمين حاجة.. فعرفنا أن الناس بتقفش العساكر وتضربهم وقلنا خلاص احنا كده كده لابسين ملكي قمنا رمينا كارنيهاتنا وقلنا ناخدها مشي لرمسيس جايز نلاقي مواصلات نروح ولو حد قابلنا تاني نجري وخلاص.. قمتوا انتوا كمان ضربتونا.
تأكدنا من كل حرف. بعدها تنبهنا أنهم جائعون ومفلسون تمامًا ويرتعدون من البرد بملابسهم الخفيفة جدًا، وهي ما طالته أيديهم عند عموم الفوضى وبدأنا نكتشف أن بعضهم كان مصابًا .. ناموا في مداخل العمارات.. وبدا على بعضهم التوجس الشديد منا. وسمعت بأذني واحدًا يسأل صاحبه همسًا.. يكونوا هايعملوا فينا حاجة واحنا نايمين ؟؟؟
(2)
قبل يناير ولعشرات السنين كنا نتابع الأخبار كأنها أفلام سينمائية (أكشن دراما رعب ).. نهتم وننفعل من موقع المشاهد وكل منا يعلم أن كرسيه الوثير في ظهره وأنه بعيد عن الأحداث الدامية. وكان النظام الغبي يغذي هذا الشعور ويستمرئه. أتت علينا الثورة المجيدة لنرى الدم والنار أقرب إلينا من رموش العين. ونرى أبناء جلدتنا يقتلون بنيران مجهولة واتهامات متبادلة ونرى أماكن لهو أولادنا وقد أمست خرابات محرقة، ونسمع أن الدولة عجزت حتى عن حماية المتحف المصري.
(3)
توقف التاكسي أمامي في الشارع الضيق فجأة تعالت الأبواق في غيظ (مش ناقصاك)، لكنه لم يتحرك ولم ينزل من سيارته.. تقدم منه بعض الناقمين في عصبية لكنهم واحدا تلو الآخر كان ما يلبث أن يهدأ ويبدأ في الربت على كتفه من نافذة بابه الذي فتحه آخر واحد، محاولاً إخراجه في ود.. نزلت معهم مستطلعًا.. كان السائق في نوبة بكاء هائلة ودموع غزيرة محاولاً إخفاء ملامحه المجهشة بكفيه العريضين وليس على لسانه إلا جملة واحدة حرام اللي بيحصل في البلد ده انتهى الموقف .. انصرفنا في صمت .
(4)
تعاطف البعض مع قصة خالد سعيد بينما ظهر تاريخ صحيفة سوابقه. حتى صورته الوديعه علمنا أنها مصطنعه بغرض ابتزاز المشاعر، ورأينا صوره الأخرى المناسبة لطبيتعه التي تحدث عنها بلا أي خير بعض جيرانه في برنامج تليفزيوني. تعاطف البعض مع شباب الثورة فأقر رموزهم علنًا بأنهم تلقوا تمويلاً وتدريبًا أجنبيًا. تعاطف البعض مع وائل غنيم ثم أدركنا دوره المشبوه فاختفى غير عابئ.
(5)
لم يصدق صاحبي أن ست البنات هي من أمامه في الفندق.. أخرج هاتفه شاهد آخر برنامج ظهرت فيه.. ثبت الكادرعلى وجهها فوق شاشته وتطلع أمامه مقارنًا.. أغلق التصفح فور أن تأكد. ثم استمر يتابع تصرفاتها لحظات ثم قال ما خلاصته طب أنا إزاي هايصعبوا عليا تاني .. أو حتى هاصدقهم .
(6)
صرنا نثق أن الكيان الوحيد الذي يستحق التعاطف هو الوحيد الموثوق فيه ألا وهو ( أنفسنا). لأننا ببساطة لا يمكن أن نداري أو نكذب على (أنفسنا)، وليس لنا أجندات (وكل منا يثق في نفسه مؤكداً). و(نحن) لا ظهر لنا إلا بقاء الدولة و أي مساس بها هو تهديد صريح لحياتنا ( نحن) واستقرار أولادنا. لذا أضحى التعاطف الوحيد معها فقط أو بالأحرى مع بقائها المرتبط عضويًا بسلامتنا الذاتية.
(7)
أما من يلوموننا أننا قد ( قست قلوبنا) فانهم يريدون إعادتنا لشلال التعاطف الأهوج مع من لا نثق في أنه يستحق. وصارت لنا خبرات في أنه قد يستغل هذه (الطيبة) من أجل مصلحته. التي قد تتعارض مع مصلحتنا المباشرة.
(8)
أحمد جبلي شاب صغير ومات فجأة.. أحمد جبلي عريس السماء.. أحمد جبلي كان يصلي وأم الصلاة بأصحابه يوم زفافه ( لاحظ الوله بالتصوير أثناء أداء الشعائر الدينية).. أحمد جبلي لم يترك فرصة لعمل الخير إلا وفعلها.. ما أخبارك هل تعاطفت معه وتمنيت أن تكون مثله.. إذا اعلم أنه كان من أتباع حازم أبو إسماعيل ولم يترك رابعة وله رأي في ضرورة مواجهة الدولة بالعنف.. أخيراً علمت بمن سيقومون بحفر آبار في أوغندا صدقة جارية على روحه تتكلف البئر الواحد 2000 دولار.. وهلموا شباب الخير (عادة استغلال التعاطف في جلب تمويل أيضاً مع ملاحظة أن البئر المزعوم في أوغندا وليس في الوادي الجديد مثلاً !!!).
(9)
نعم.. بعد يناير صرنا غلاظًا مع كل أرباب السياسة.. وإن قدر لنا أن نتعاطف أو نأسى لأي ضحية لحدث سياسي فلا يكون إلا مع من ينتمون للدولة المصرية بالفعل والقول.. أما غيرهم فعذراً فبعدما وضعتمونا على شفا الفوضى فقد باتت قلوبنا من حجارة أو أشد قسوة .