السيسي وألمانيا..التحدي والكرامة والسياسة !
بمجرد أن أعلن نوربرت لامبرت رئيس البرلمان الألماني، أنه لن يستقبل الرئيس المصريّ عند زيارته القادمة لبرلين، حتى فتحت الصحافة المصرية ونجوم التوك شو والفضائيات النار على ألمانيا وسياسيها والمستشارة ميركل، وطالبوا السيسي بعدم الذهاب حفاظا على كرامة مصر! والحقيقة أن إعلامنا بشكل عام- كما سبق وأشرت مرات عديدة- لا يهتم أو لا يتعب نفسه بالبحث عن الحقيقة.. الجميع يتطوع بانتقادات ساذجة مثل أن لامبرت حفيد هتلر أو أنه يخطب ود الإخوان ليساعدوه في الانتخابات القادمة أو يجامل صديقه أردوغان الرئيس التركي عدو مصر والسيسي والداعم الرئيسي لجماعة الإخوان الإرهابية!!
هذا الكلام لا يصح أن يصدر عن صحفيين أو إعلاميين محترفين.. فأولا السياسة ليس فيها صداقة دائمة أو عداوة مستحكمة.. انظروا إلى أمريكا وإيران مثلا.. ثم أنه ليس كل ألماني حفيدا لهتلر.. وبالمناسبة أقوى انتقاد وهجوم تعرض له أردوغان في ألمانيا، كان من لامبرت نفسه الذي أكد أن تركيا ارتكبت أروع مذبحة في التاريخ ضد الأرمن وانتقد بشدة موقف أردوغان وحكومته عندما أوقفا بث القنوات التركية الرافضة لقرار الرئيس التركي بتعقب الصحفيين المعارضين له واعتقالهم.. وبالمناسبة انتقاد لامبرت لأردوغان كان في نفس يوم تصريحه برفض لقاء السيسي.. أما مسألة دعم الإخوان لرئيس البرلمان الألماني في الانتخابات فهو شيء ساذج لأن القانون الألماني صارم في منع المرشحين من تلقي معونات مالية من جماعات أو أشخاص ليسوا من أصول ألمانية!
كان على إعلامنا أن يفهم أن السيسي يسافر إلى ألمانيا في زيارة رسمية بناء على دعوة المستشارة الألمانية أنجلا ميركل وليس بناء على طلب رئيس البرلمان الذي لم يطلب السيسي مقابلته ولا سعى إليها حتى يرفض لامبرت أو يقبل! ثم أن الرد على أي هجوم غربي ضد مصر ينبغي أن يكون محددا ومنطقيا وليس متشنجا وعشوائيا.. كان الأمر يستلزم ردا مثل الذي بادرت به الخارجية المصرية.. لم تطلب مصر ولا رئيسها مقابلة لامبرت ثم أن تصريحاته حول مصر مستمدة من منظمات معادية لمصر ولا تتسم بالحيدة والموضوعية ولها أهداف سياسية.. والمفروض أن يبادر أي سياسي بعرض وجهتي النظر في أي قضية، خاصة إذا كانت تمس علاقات بلاده بدولة محورية مثل مصر.
إذن ما الذي كان من المفترض أو يفعله الإعلام المصري ؟
بداية لا بد من تقديم دليل على أن رئيس البرلمان الألماني يكيل بمكيالين.. كيف؟! فقد أقام البرلمان الألماني استقبالا تاريخيا لرئيس الصين حضرته المستشارة أنجلا ميركل ولامبرت نفسه ورئيس الجمهورية يواخيم جاويك، رغم ما هو معروف عن الصين من انتهاكات لحقوق الإنسان، علاوة على أنها الدولة الأولى في العالم التي تصدر أحكاما بالإعدام.. وإذا كان لامبرت ينتقد مصر لكثرة أحكام الإعدام فيها فلماذا التفرقة! ولو قصد رئيس البرلمان الألماني الحكم الذي أصدرته إحدى محاكم محافظة المنيا بإعدام أكثر من 500 شخص فقد تم إلغاء هذه الأحكام فى الاستئناف والنقض.. أما إذا كان يتحدث عن أحكام صدرت ضد جماعة الإخوان لقيامها بأعمال إرهابية، فإن المحاكم المصرية أصدرت أيضا احكاما كثيرة ببراءة عدد كبير من تنظيم الإخوان.
ثم أن ألمانيا تعاملت أيضا بقسوة بالغة مع جماعة بادرهاينهوف الألمانية الإرهابية عندما هددت المواطنين الألمان ومصالح البلاد .. إذن المسألة ليست الدفاع عن حقوق الإنسان التي يحاول رئيس البرلمان الألماني الدفاع عنها، ولكنّها المصالح التجارية.. فالصين الشريك الرابع لألمانيا ومصر في المركز 142!
ثم دعونا نعترف بالحقيقة ! إن مصر لم تكن يوما ما "جنة حقوق الإنسان" وقد حضرتُ عام 2010 مؤتمرا صحفيا بين ميركل والرئيس الأسبق مبارك وهاجم الصحفيون الألمان كعادتهم حقوق الإنسان فى مصر واتهموها بالتعذيب.. ورد مبارك بهدوء قائلا نعم هناك تجاوزات لكن ليس لدينا جوانتانامو وابو غريب والكاتزار!.. وإذا كان رئيس البرلمان الألماني يهدف إلى أن يتوج تاريخه السياسي بأنه سيمنع رئيس أي دولة تنتهك حقوق الإنسان بأية صورة من زيارة بلاده، فمعنى هذا أن برلين لن تستقبل نصف رؤساء العالم.. على كل حال سوف يتم استقبال السيسي باعتباره رئيس أهم دولة في الشرق الأوسط في مكافحة الإرهاب وسيقابل بالاحترام اللازم لأي رئيس كما تقضي قواعد البروتوكول.
مواجهة نفوذ الإخوان بألمانيا: هناك كتاب هام لمؤلف شهير هو إيان جونسون عنوانه "مسجد فى ميونيخ.. النازيون ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية".. فصول هذا الكتاب – لمن يريد القراءة – هي أبلغ رد على التجاوزات الألمانية، وهي توضح العلاقة المتشابكة والعميقة بين التطرف النازي والإسلامي ووكالة المخابرات المركزية.. وكيف أصبح المسجد الكبير في ميونيخ بألمانيا خلية لتصدير الفوضى إلى العالم العربي، وتمكين التنظيمات المتطرفة من الحكم.. هكذا ينبغي الرد على الألمان.. بمنطقهم وليس بفرش الملاية والردح وهو أسلوب انتهى من الصحافة وإلا سنكون مثل الصحف التي تصدر بتمويل يهودي وإسرائيلي وتبتز الألمان بالمحرقة ويفرضون عليهم جزية يدفعونها صاغرين.. لا نريد أن ننزلق إلى هذا الدرج، لأن لكل بلد عيوبها وسقطاتها التاريخية مثلما اعترف الرئيس الألمانى مؤخرا بأن بلاده دبرت مذبحة الأرمن مع الدولة العثمانية عام 1915، وأنها وصمة عار لا تمحى!
لماذا قبل الرئيس التحدي ؟! اقترح البعض على الرئيس إلغاء الزيارة لتحقيق مكاسب لدى قطاعات من الرأي العام والتأكيد على كرامة مصر واحترامها لقضائها وأنها لا تقبل المساس بشؤونها الداخلية.. لكن الرئيس كان له رأي آخر وهو أن إلغاء الزيارة سيصب في مصلحة أنقرة والدوحة وإسرائيل التي كثفت جهودها الإعلامية لعرقلة جولة السيسي بألمانيا وفرنسا.. وأوضح الرئيس أن السياسة الخارجية المصرية المنفتحة على المختلفين معنا منذ 30 يونيو نجحت في كسر الحصار الدبلوماسي المفروض علينا، فلا ينبغي أن نعيده بأنفسنا الآن.. ثم أن الزيارة لم يكن بها من الأساس زيارة البرلمان الألماني وتقتصر على ميركل والرئيس الألماني ونائبة المستشارة وزعيم الأغلبية الحاكمة وبعض زعماء المعارضة وأكاديميين وصحفيين ورجال أعمال.
الرئيس السيسي لا يهرب من تحد أو يخشى من ضغوط وما أكثرها ولا يجبن من شرح وجهه نظره.. نحن لا نعيش بمفردنا.. ولسنا دولة عظمى.. وعلى الإعلاميين أن يتذكروا ما قاله الرئيس من أنه حتى لو أعطتنا أمريكا ظهرها، فلن نعطيها نحن ظهرنا.. هذه هي السياسة.. هجوم ودفاع.. نقد ومديح.. تلاسن وتصافح.. أحضان وطعنات.. إنه قدرنا.