"خالد منتصر" والانتصار للعلم والتنوير!!
قامت الدنيا ولم تقعد على المفكر الدكتور خالد منتصر رئيس قسم الجلدية والتناسلية بجامعة قناة السويس؛ بسبب مقطع فيديو غير مكتمل تم انتزاعه من محاضرة مطولة ألقاها الدكتور منتصر منذ أسبوعين في صالون "علمانيون"، قدم فيها المفكر الكبير ملخصاً لكتابه القيم "وهم الإعجاز العلمي".
ومن المؤسف أن ما تناقلته وسائلُ الإعلام المختلفة من تصريحاتٍ مجتزئة استهدفت من ورائها خلق حالةٍ من البلبلة داخلَ المجتمع, وإثارة الرأي العام بادّعاءاتٍ باطلة تكشفُ عن إصرارِ التياراتِ الأصوليةِ والرجعية على تقويضِ حركةِ التنويرِ والتجديد, التي يحاول الكثيرون ومنهم الدكتور خالد منتصر إحداثَها في المناخِ الفكري والسياسي الحالي والمجتمع المصري بشكل عام.
ومن حسن حظي إنني كنت شاهد عيان على ماقاله الدكتور منتصر سواء ماتم تصويره بالفيديو أو مما قاله بعد إغلاق الكاميرات، حيث إنني كنت أحد الحاضرين في هذه الندوة الهامة، فالرجل دافع عن الدين وقال إن الدين منهجه مختلف عن العلم وهذا لا ينتقص من الدين على الإطلاق، لأن الدين منهجه اليقين والثبات والمطلق، أما العلم فمنهجه التشكيك والتفنيد والتغيير، ومن ثم فلا داعى لأن نغامر ونقامر بربط الدين المطلق بالعلم المتغير، لأن هذا يضر الدين والعلم على السواء.
ومن المؤسف أن من هاجموا الدكتور خالد منتصر سواء من الأصوليين الدينيين على مواقع التواصل الاجتماعي أو من غيرهم من الإعلاميين غير الموضوعيين، لم يقرأوا كتابه بالكامل، كما أنهم لم يستمعوا لمحاضرته من بدايتها وحتى نهايتها، لأنهم لو فعلوا ذلك لما أساءوا فهم الرجل، ولما فكروا في الهجوم عليه من الأساس.
وكان من المخجل أن بعض الإعلاميين ظنوا أنفسهم وكلاء الله على الأرض، فنصبوا أنفسهم رقباء على ضمائر البشر، فوجهوا للدكتور منتصر عبر برامجهم الفضائية أسئلة شخصية سخيفة جداً، ليس من حقهم أن يسألوها على الإطلاق من عينة: هل أنت تصوم؟ هل أنت ملحد؟ وغيرها من الأسئلة التي وإن دلت على شيء إنما تدل على بجاحة ووقاحة وتخطى لكل الحدود، وتناسى هؤلاء الإعلاميون أنه ليس من حق أحد أياً كان شأنه، أن يضع نفسه مكان الله الذي له وحده حق محاسبة البشر، وأنه سبحانه لم يعط لأحد أياً من كان أن يحاسب أحداً، أو حتى أن يسأل مثل هذه الأسئلة السخيفة.
ومما زاد الطينة بلة هو قيام رئيس مجلس إدارة إحدى القنوات الفضائية، وكذلك قيام أحد المحامين بتقديم بلاغات للنائب العام ضد الدكتور منتصر بتهمه ازدراء الأديان، والحض على البلبلة وتكدير الأمن العام والسلم الاجتماعي وإشعال الفتن، فهكذا تتم مواجهة الأفكار في عالمنا العربي.
إن "خالد منتصر" كإنسان وكاتب ومفكر له ما له وعليه ماعليه، ومن حق أي أحد أن يختلف معه ومع آرائه وأن ينتقدها كيفما يشاء، ولكن الرأي لا يُواجه إلا بالرأي، والحجة لا تُقارع إلا بالحجة، والفكر لا يُرد عليه إلا بالفكر، أما أن يُواجه الفكر والرأي ببلاغ بتهمة ازدراء الأديان فهذا ما لا يمكن قبوله، لأن البلاغ المقدم ضد منتصر هو عودة لنظام "الحسبة"، والذى سبق، وتم تعديله طبقاً للمادة الثالثة من قانون المرافعات لانتفاء الصفة والمصلحة لمقدم هذا البلاغ.
كما يُعتبر هذا البلاغ بمثابة إساءة للحق في التقاضي بغية ترويع المواطنين، ومنعهم من ممارسة حقوقهم الأساسية، ومن بينها الحق في حرية الرأي والتعبير التي نص عليها الدستور المصري فى المادة (65)، والتى تنص على أن "حرية الفكر والرأي مكفولة ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر".
وماحدث مع خالد منتصر ذكرني بما قاله يوسف إدريس ذات مرة: "إن الحرية المتاحة في العالم العربي كله، لا تكفي كاتبا واحدا لممارسة إبداعه بشكل كامل، بعيدا عن القيود المتعددة التي يفرضها على الكتابة, الاستبداد السياسي, والتصلب الفكري، والجمود الاجتماعي، والتعصب الديني"، وعندما نقارن ما كان يحدث في زمن يوسف إدريس وما يحدث اليوم، نلاحظ قدرا متزايدا من الوطأة القمعية لأشكال الرقابة, التي تؤثر في النهاية تأثيرا سلبيا على حرية الفكر والإبداع.
ومن المؤسف أن تتخذ عمليات تقييد حرية الفكر والإبداع أشكالاً مختلفة في المجتمعات العربية، وهي أشكال تندرج تحت ما يطلق عليه مرة اسم المصلحة الوطنية، وأخرى اسم الدين، أو الأخلاق أو المجتمع، وفي يقيني أنه ليس من حق أحد أن يعتبر نفسه وصيا على فكر أو أخلاق أي أحد، والأديان الراسخة أقوى من أن تزعزعها تدوينة أو مقطع فيديو، وأثبت من أن يزعزعها رأي كاتب أو صحفي، وأرسخ من أن يزعزعها فيلم أو رسم كاريكاتيري، هذا فضلاً عن أن الله سبحانه وتعالى لم يطلب من أحد أن يدافع عنه وعن الأديان بالوكالة، فهو سبحانه قوي قدير, يستطيع أن يدافع عن نفسه وعما أنزله.
إن ما يتعرضُ له المفكرُ الدكتور خالد منتصر من هجوم شديد من بعض الأبواق الإعلامية التي تغازل المتطرفين والإرهابيين، يؤكد أن هناك معركة حقيقية بين التنويرين والظلاميين، وهذه المعركة في حقيقتها ليست معركة الدكتور منتصر بمفرده ولكنها معركةُ وطنٍ، وهذه المعركة الضارية تحتم علينا أن نصطفُ جميعا كتفا بكتفٍ في محاولةٍ لإنقاذه من براثنِ التخلفِ والرجعيةِ والأصوليةِ الدينية، والتصدي للأصوليات الدينية التي تحاول العودة بنا إلى العصورِ المتخلفة عصور محاكمِ التفتيش.
وما يحدث مع الدكتور خالد منتصر وما حدث مع غيره من المفكرين المصريين التنويريين يدعونا لضرورةِ مراجعةِ المواد (98 أ ، 160 ، 161) من قانون العقوبات المصري، تلك المواد التي يستغلُها البعضُ في توجيهِ اتهاماتٍ مُرسَلةٍ يتم وضعُها تحت عنوانِ "ازدراء وتحقير الأديان" فوجودُ مثل هذه المواد في القانون المصري أمرٌ يُمثل تناقضًا صارخًا مع الدستور المصري والحق الإنساني في التعبير عن الرأي، حيث إن هذه المواد تتعارضَ مع نص الدستور الواضح والصريح فيما يخص حريةَ الرأي والتعبير.
إننا أمام لحظةٍ استثنائية تحتم علينا الوقوفَ جنبًا إلى جنب لتأسيس وطنٍ قوامُه العقل وسلاحُه التنوير يحترمُ العلمَ ويقدرُ المبدعين، وبخلاف هذا فلا تقدم لنا ولا مكانلنا إلا في ذيل الحضارة وآخر الركب.
إن إرهاب خالد منتصر هو محاولة لإطفاء شمعة من شموع التنوير القليلة في مصر، ولكن هل سينجح الظلاميون في إطفاء الشموع.
هيهات هيهات
يوماً ما سيفوز العلم
وحتماً سينتصر التنوير !!