المُش تشفى
قد يحدث أن تستيقظ في أحد الأيام.. كأي مواطن مصري عادي.. هادئ.. صامت.. منعكش.. وتجد نفسك تشعر ببعض التعب أو الألم الذي لا تعرف مصدره.. هناك حلان أمامك في تلك اللحظة.. إما أن تدلف للصيدلية لتأتي بشريط كيتوفان أصفر.. تتسلى فيه طوال اليوم.. أو قد تفضل الذهاب للـ "مُش تشفى".. حيث تأتي الكارثة الكبرى.
حين تُقرر الذهاب للمشفى.. وحين تبدأ في المفاضلة بين "المشفى الخاص" الملاصق لمنزلك أو المشفى الحكومي التي تبعد عن البيت بضعة شوارع.. وقبل أن تخطو خطوة خارج المنزل.. أول ما سيخطر لك هو أن تلقي نظرة بداخل محفظتك.. حيث يقبع جوز من العشرينات وهو كل ما تبقّى من المرتب الملعون الذي لم يلبث أن يدخل جيبك حتى تناثر هنا وهناك.. وحيث إن هذا المبلغ لا يكفي حتى لوضع البقشيش في يد تمرجي المشفى الخاص.. عليك حينها أن تقرر وجهتك.. وتذهب لها سيرًا على الأقدام.
بداخل المشفى الحكومي ..
بالطبع أول ما سيقابلك عندما تطأ قدماك ذلك المشفى الحكومي.. هو رجل مُسن.. منحني الظهر.. محتفظا بشنبه منذ حادثة دنشواي.. يرتدي قميصاً لبنيًا أكل عليه الدهر وشرب و" اتكرع" كمان.. وبنطالاً قماشيًا رمادي اللون.. ما إن يلمحك.. حتى يعدو تجاهك.. سابقا لزميله ذو القميص ذاته.. فيلفظ جملة سريعة، تمرّس نطقها على مر السنوات "أؤمرني يا باشا".
فـ تنظر حولك لتتأكد جيدًا من أنك بداخل المشفى وأنك لم تدخل "سلسلة محلات الفجر لتفصيل الملابس الرجالي" خطأً.. وأن هذا الرجل هو بالفعل "التمارجي".. وليس صبي الترزي الذي سيرفع لك المقاسات! ثم تدلف للداخل متجاهلاَ الرجل وما قاله.. ( لاحقاً ستتفهم أن تلك الجملة التي لفظها الرجل تعني "اغمزني بأي حاجة "، وستتمنى لو يعود بك الزمن فتغمزه وتخلص من الوحلة التي وضعت نفسك فيها ).
تدخل لقسم (الاستهبال) أو ما يطلقون عليه عبثًا "الاستقبال".. حيث تقطن ممرضة مُطلّقة.. قد قامت بعمل محضر لزوجها المدمن بالأمس وقام أولادها بتسلق خلفية سيارات النصف نقل ليهربوا من المدرسة.. فتسألك بغضب وسخافة جليين، عما تشكو منه.. ودون أن تستمع للإجابة ستنظر في كشف حضور الدكاترة واللي تلاقيه موجود تقولك احجز عنده وفي الغالب سيكون دكتور "الباطنة ".. نعم فالباطنة هو أساس كافة الأمراض.
عليك يا عزيزي أن تقطع تذكرة لرحلة الباطنة التي لا تعلم متى ستنطلق وفي أي ساعة ستصل بك للدكتور المراد.. تجلس على مقعد بلاستيكي أحيل بياضه إلى اللون البني من كثرة ما وقع عليه من الشاي والنسكافيه.. تجلس وتنتظر دورك.
عزيزي القارئ أتمنى من كل قلبي أنك قد تكون حسبت حساب ذلك الانتظار.. ففي تلك الأثناء.. باستطاعتك أن تقرأ كتابًا كاملاً وتتناول وجبتي الإفطار والغداء وتنهي أعمالك على الحاسوب النقال وتحدّث "سامية" خطيبتك عبر "الشاتينج".. وتقوم بالاتصال بأهل البلد لتطمئن عليهم فردًا فردًا.. وتنام وتفيء .. ثم تجد بعد كل ذلك أنه لا زال هناك سبعة أفراد يسبقونك في دفتر الحجز.
أثناء الجلوس .. ستجد شيئًا طريًا مغطى بالفرو.. يخرج من أسفل مقعدك ويقترب من قدميّك.. لا تفزع.. إنها فقط بضعة قطط جربانة تداعبك وعليك أن تتحملها.. حيث لا مأوى لها سوى تلك المشفى.
تكتشف وأنت تلقي نظرة على القطة الجربانة وأولادها الخمسة أن هناك تجمّعًا زاحفًا حول حذائك، يتكون من بضعة زواحف أليفة وحشرات صغيرة الحجم ويمكن رؤيتها بالعين المجردة.. والتي يعتبر أكثرها من النوع المسمى بـ "حرامي الحلة ".
لكن تتفاجئ بامرأة تمسك بممسحة تحمل من الجراثيم ما يكفي لأن يصيب 90 شخصًا بالكوليرا وتقوم برش بعض من الماء على الأرضية أثناء ارتدائها "قفازين طبيين" #هعيّط.
قد تضجر من الجلوس برفقة "عالم الحيوان" ذاك.. ولأجل قتل الوقت، تضطر أن تتبادل أحاديث قصيرة مع بعض المرضى الذين فقدوا الأمل في الدخول فتمددوا بجانبك على السلم أو المقعد.. يقص عليك كل منهم ظروفه السيئة وأمراضه المزمنة وانتظار الكشف الذي دام لأيام وأسابيع، والتي على إثرها تحمد الله على ما أعطاك من صحة وعافية.
أثناء أخذك لشهيق طويل وزفير متقطع... يصل لمسامعك بعض أحاديث الممرضات اللواتي يتناقشن في أهم القضايا الاجتماعية مثل
- سعاد هتتطلق من محمود ولا لأ ؟!
- مين اللي هيدفع تمن الفطار النهارده ؟؟
- لما دادا حمدية هتموت يا ترى ميس نورهان هتمسك بعدها ولا لأ؟!
- مين اللي هيعقم المنظار اللي خارج من بطن المريض اللي جوا؟
- لفة الطرحة إسبانش مبين الرقبة أحلى ولاّ الإسبانش اللي بيبرز الكحكة أحلى؟!.. إلخ
أثناء ذلك تتطاير منهم رائحة الكشري المعبأ بأكياس بلاستيكية في صورة "فطار ".. أحياناً يتصاعد الخلاف بين اثنتين منهم للدرجة التي يمسكون فيها ببعض وتمتلأ المشفى بالممرضات والتي تتطوع كل منهم بتشجيع فلانة ورمي اللوم على الأخرى أو العكس.
وعندما تتعالى أصواتهم وتصل لمسامع الدكتور، يخرج أخيرًا من صومعته.. في كامل هيبته، يطل من باب غرفته.. مرتديًا بنطال جينز وقميص مهترئ ونظارة نظر.. وتظن هنا كأي عاقل أن الجمع سيتفرق وأن الخناقة ستهدأ .. لكنك تجد الدكتور يتحول من كائن مهيب إلى رجل سوابق يهرول إليهم ويحاول فض الاشتباك مع بعض كلمات المحايلة وتطييب الخاطر مثل "خلاص بقى يا سماح".. "حقك عليا يا مديحة".. "حِبي على راس ميس نورهان يا هيام" !
فوق ذلك كله وقبل أن تتخذ قرارك بالذهاب للصيدلية والحصول على شريط الكيتوفان الأصفر، ترمي بعينيك داخل غرفة الكشف، فتكتشف أنها خالية من المرضى تمامًا.. وأن الساعات الطويلة السابقة التي قضيتها في الانتظار الممل والمشاهد المزرية، كان يقضيها الدكتور بيفطر وبيشرب كوباية الشاي وبيقرا جرنال المصري اليوم!
بس أهم حاجة إيه ؟؟! ... إن لسه فيه أمل