هيا بنا نفكر.. هل دهون اللحم حرام ؟
تُجمع مراجع الفتوى في كل أرجاء العالم الإسلامي على أن التدخين حرام استنادًا إلى حديث لا ضرر ولا ضرار. وبما أن العلم قد أثبت أنه مُضر فيصير الحكم الشرعي عليه هو حرمتها على المدخن إذ يضر نفسه.. وحرمة تصنيعها وبيعها لأن من يفعل يضر بالآخرين. يأتي هذا الإجماع متجاوزًا عن عمد المبدأ الفقهي الراسخ أن الأصل في الأشياء الإباحة ولا حرام إلا بنص صريح.
لكن وبما أنهم أدرى بفنون علمهم.. وبناءً على ما سبق وقياسًا عليه ولأنه إجماع.. يصير أي شئ يضر بالصحة حرامًا.. أليس كذلك!! هنا يأتي السؤال لماذا السجائر تحديدًا؟
المياه الغازية مضرة. المقرمشات مضرة. رقائق الشيبس مضرة.. وكلها صناعات عالمية يعمل على تصنيعها وتسويقها وتوزيعها وبيعها ملايين البشر.. وبما أن العلم أثبت أنها مضرة فهي حرام لا لبس فيه!
لا تتوقف الأسئلة عند هذا.. بل تتجاوزه لأن العلم قد أثبت بلا شك أن الملح الطبيعي (كلوريد الصوديوم) يضر بالصحة. وأن دهون اللحم مضرة بالصحة والسمن وكذلك الزيوت المهدرجة. فهل معنى الفتوى المجمع عليها أن كل ما سبق حرام!!
سمعت رد أحدهم على استحياء أن هذه الأشياء كانت موجودة على عهد النبوة ولم يحرمها الشرع (الحكيم) لذا فهي حلال. هنا يتغافل الرد أمرين مهمين:
الأول أن التدخين لمن لا يعلم كان موجودًا منذ آلاف السنين في حضارات كثيرة (ليس منها الشرق الأوسط)، لكن لم يتم الإشارة له أبدًا لا من قريب ولا من بعيد . فهل المعنى أن شرعنا الإسلامي وقت الوحي لم يكن يعلم بوجود هذه العادة أم أنه كان يعلم عنها ولم يحرمها؟
الثاني أنه وبفرض أن السمن والملح وغيرها من المواد الغذائية كانت موجودة ولم يكن العلم يعرف أنها مضرة وثبت الآن ضررها.. فهل ستبقى حلالاً لمجرد أنها كانت معروفة في الجزيرة العربية في وقت الرسالة؟ أم ستصير حرامًا عملاً بحديث ألا ضرر ولا ضرار؟
أنا لا أدافع عن السجائر تحديدًا فضررها على الصحة غير قابل للجدال ولا النقاش. فقط أمارس حقي في التفكير ومناقشة مبدأ سهولة تحريم ما لم يحرم أصلاً.
لو كنتم مقتنعين بالفتوى.. فاني أنتظر نفس التحريم على أشياء كثيرة جداً تملأ الأسواق وهو ما لن يحدث. لأن الحقيقة تبدو غير ما سبق.
الحقيقة تبدو أن مراجع الفتوى تصر أن تزج بالحرام والحلال بدلا من الصواب والخطأ والمفيد والضار والأفضل والأسوأ. فقط لا غير.
وبما أن العالم المتقدم يحارب التدخين ( ليس للضرر فقط فالعالم يعرف صناعاته الملوثة والقاتلة أكثر منا ولا يَنْبِس بِبِنْتِ شَفَةٍ بشأنها، ولن يفعل حتى يجد البديل)، وبات يستكثر هذه الهكتارات من الأرض الزراعية المُخصصة للتبغ، ويرى أنها بإضافة تكاليف علاج الأمراض الناجمة عنها بشكل مباشر، ويمكن إثباته أصبحت عبئًا على الاقتصاد العالمي.
ومراجعنا الدينية تريد أن تتوازى مع العالم بأي حال ولكن بطريقتها. فتقول إنه حرام، ولم تجد سندًا للحرمة تلك سوى حديث الضرر والضرار فاتكأت عليه ولم تخجل ألا تطبقه على أي شيء آخر قرر العلم بلا أي شك أنه مدمر للصحة. دون أن تفطن لأنها تضرب المنطق بالرصاص عندما تقول إن السجائر حرام وتهمل باقي الأشياء المضرة والقاتلة لمجرد أن العالم الذي نلهث خلفه ونتملقه لم يعلن الحرب عليها بعد.
عزيزي القارئ.. علماء الدين يعلمون يعلمون يقينا- مثلاً - أن صناعات مثل السيراميك والأسمنت ملوثة وقاتلة فهل يجرؤ منهم واحد أن يسمعنا فتواه ويحرمها؟
وهل يأتي يوم نذهب للسوبر ماركت الذي لا يبيع صاحبه السجائر لأنها حرام فتجده يعتذر عن بيع السمن والملح والزيت والسكر وكل أنواع الشيبس وكل المخللات وأغلب أنواع الجبن كامل الدسم وكل حلوى الأطفال التي بها ألوان صناعية ومكسبات طعم ومصنعات اللحوم المحفوظة.. لأنها حرام.
أيها البشر نعم هناك حرام وهناك حلال. لكن العبث أن يكون حكمنا على الكون كله من خلال هذا المنظور فقط.. ثمة معايير أخرى تحكم.. هناك الجميل والقبيح والراقي والوضيع والقديم والحديث كما هناك الصحي وغير الصحي والمفيد والضار. وربما كان شيء ما حلالا ولا نص بحرمته لكنه في ذات الوقت غير صحي.. ما المشكلة في هذا!
فيا أعزائي.. اللحم الملئ بالدهون حلال لا شك فيه.. لكنه غير صحي وضار جداً فلا تأكله.. هل ما سبق معضلة ؟