ليس مجرد حادث
في مساء 22 مايو 2014 تناقلت المواقع الإخبارية خبر تعطل قطار رقم 568 القادم من الإسكندرية والمتجه إلى المنصورة، وسط الأراضي الزراعية بين محطتي "كفر الدوار" و"أبو حمص"، وقد وُضِع الخبر تحت عناوين متباينة "عودة حركة قطارات (الإسكندرية ـ المنصورة) بعد تعطلها بسبب مشاجرة بين الركاب" أو "الجزرة تعطل 3 قطارات ركاب الإسكندرية - القاهرة والمنصورة بكفر الدوار" أو "مجهولون يوقفون قطار (الإسكندرية ـ المنصورة) بكفر الدوار".
ونسبت الأخبار أسباب الحادث إلى "شد جزرة الفرامل" أو لحدوث مشاجرة بين الركاب والسائق، أو لقذف بعض "المجهولين" من الركاب للقطار بالحجارة، دون تقديم مبررات مقنعة لأسباب الحادث.
وقد كنت أحد ركاب هذا القطار، شاهدا على أحداثه، وحقيقة الأمر تُغاير هذه العناوين التبسيطية.. والقطار بالأصل قطار محافظات، يقف بمحطات عواصم المحافظات فقط دون باقي مدنها، به عربات قليلة للدرجة الثانية المكيفة، والباقي عربات مميزة "عادية".
وقد بدأت الأحداث بهمهمات وأحاديث غير مفهومة توحي بأمر ما بين بعض الركاب، الذين تكدسوا في مداخل العربات المكيفة، بفواصل العربات، وهي عادة معروفة لركاب القطارات، فلا هم استقلوا العربات المكيفة وغرموا تكلفتها، ولا هم ركبوا العربات المميزة "الأقل درجة"، وفي العادة يعتبرهم الكمسارية من ركاب العربات المميزة، هذا إن لم يغادروا القطار قبل أن يقابلهم الكمساري، وتميّزت لهجتهم بالصلف.
قبيل تحرك القطار جرت بينهم وبين الكمسارية مفاوضات حول توقف القطار بمحطتي "كفر الدوار" و"أبو حمص" وهي بلدان إقامتهم، ولكنّها لا يقف بها هذا القطار طبقا لخط سيره، ورفض الكمسارية هذا الطلب، وطلبوا من ركاب هذين البلدين النزول، على أن يركبوا قطار المراكز. وأصر هؤلاء على استقلال القطار، رغم تأكيد الكمسارية لهم على عدم وقوف القطار بمحطات تخالف خط سيره الرسمي.
بهذا المكان يمكنهم التدخين فيمن ينضم إليهم من ركاب العربات المكيفة راغبي التدخين، ويصبح هذا الفاصل بين العربات بمساحة أقل من 2 متر مربع، بمثابة ركن للمدخنين وسط تكدس الأجساد، ينفثون به دخانهم، الذي يتسرب للعربات مع تكرار فتح بابها، والتي سرعان ما تتغير رائحة هوائها بدخان السجائر المكتوم والمختلط برائحة دورات المياه المعطلة بأطراف العربات، فيكتشف الراكب أن العربة المكيفة قد أصابها الكثير من العطب، الذي يحاول الفرار منه، بدفع ثمن تذكرة مرتفع.
يومها، ما إنْ تخطى القطار محطة كفـر الدوار، حتى بدأت همهمات هؤلاء الركاب المستقرين بفواصل العربات، وانهالت منهم عبارات السباب والتهديد، وحدثت حركة غير طبيعية بين الركاب، تجمّع فيها من باقي عربات القطار أعداد ليست بالقليلة، وانضموا لهؤلاء المتكدسين بفواصل العربات، وفصلوا "جزرة الفرامل" وأوقفوا القطار، وسرت حالة هلع وتوتر بين الركاب، وسط تناثر أقاويل بشأن ما سيحدث، فردد العارفون ببواطن الأمور من الركاب: أن هؤلاء الغاضبين سيتوجهون لضرب سائق القطار والكمسارية، وأن ذلك أمر متكرر!
توقف القطار ونزل هؤلاء الغاضبين، واعتدوا على القطار وعلى عربة السائق وعربة الديزل بالحجارة البازلتية الصلبة، التي تفترش طرق السكك الحديدية، واختبأ أغلب الكمسارية، وحوصر القطار وسط حالة من السُعار الجنوني والإرهاب الموجه نحو القطار ذاته وركابه، السباب كان يصل أسماعنا، التهديدات بالقتل، وعبارات خاصة موجهة نحو ركاب "المُـكيَّف"، ووصلت لأسماعي جملة "حق الله نولع في ... أم المكيف".
ورغم أن القطار "إكسبريس" لا يقف بمراكز المدن، سواء بعرباته المكيفة أو بباقي عرباته المعتادة، أي أنه يحمل ركابا من مختلف الطبقات، إلا أن الكراهية كانت موجهة نحو ركاب العربات المكيفة، ربما لشيوع الظن بأن هؤلاء أثرياء، استمر المشهد المرعب لفترة طويلة، أغلق بعض الرجال أبواب العربات واحتموا خلفها، وسط سماع أصوات ارتطام حجارة البازلت بها، إشارات تهديد وبذاءات من الخارج، تصل عبر زجاج النوافذ، الذي بدأ في التشقق لتلقيه المقذوفات القوية المتتالية، ولولا أن الزجاج سميك ومن طبقتين لحدثت خسائر بشرية، حيث تكرر التصويب نحو رؤوس الركاب!
لم يكن هناك سبب مقنع يفسر لك لماذا يمكن أن تموت بجريمة ركوبك عربة قطار مُكيف دفعت في تذكرته حوالي عشرين جنيها؟ رآها آخرون سببا كافيا للخلاص منك!
شاع الصراخ والبكاء والانبطاح أرضا، وشاعت الشائعات أيضا بين الركاب، بأن السائق قد أصيب، وأخرى بأنه قد قُتل، وهو ما لم يحدث بستر الله، رغم تهشم زجاج عربة "الونش" التي أغلق بابها على نفسه جيدا، للنجاة من الاعتداءات المقصود بها، وأفلت الكُمسارية أيضا من الهلاك.
ورغم كون هؤلاء المعتدين في مجملهم، وهم من مراحل عمرية مختلفة، صبية وشبابا وكهولا، منهم مثلا من يدخنون سجائر بأثمان تفوق ثمن التذكرة، ولا تُخفي وجوه بعضهم عدم التعفف عن تعاطي المخدرات، التي هي بالضرورة أغلى من ثمن تذكرة الموت تلك، إلا أن القاعدة قد استقرت على كونهم بالضرورة أرق حالا من غيرهم وأكثر وداعة!
لم يكن هناك أحد يمكن أن يمنح النجدة في هذا المكان المعزول باستثناء خفيرين نظاميين لمحا المشهد من نقطة بعيدة، فظنوا أن هناك حالة إرهاب أو اختطاف، فأطلقا أعيرة في الهواء؛ مما جعل هؤلاء المعتدين يغادرون المشهد هاربين في اتجاهات عدة، وعاد للقطار مرة أخرى بعض الصبية والشباب من مدينة "أبو حمص"، الذين شاركوا في الاعتداءات واندسوا ثانية بين الركاب.
ثم أتت قوات الشرطة، وتعطّل القطار حتى انتهاء كتابة المحضر، ثم إرسال إخبارية لدمنهور لإرسال "ونش جرار" يجُر القطار بديلا للجرار الذي تعطل نتيجة الاعتداء والتخريب، وحدثت عدة توقفات للقطار في الطريق نتيجة تبديل الأوناش وعدم جهوزية بعضها، وقد عطبت عربة "توليد القوى" التي نالها تخريب وافر؛ مما جعل القطار غارقا في الظلام مع حلول الليل، وتأخر القطار حوالي ساعتين عن موعد وصوله النهائي.
انتهى الحال بعناوين إخبارية لم تقدم تفسيرا مقنعا للحادث، حول مجموعة ركاب اعتادوا في مراحل سابقة أن يهدئ القطار من سيره اليومي بين مدينة عملهم "الإسكندرية" عند وصوله لمحطات بلدان إقامتهم؛ كي يتمكنوا من النزول في هدوء ثم يُكمل سيره، مخالفة لخط سيره الرسمي بعدم الوقوف إلا في عواصم المحافظات فقط دمنهور ثم طنطا.. وهي عملية اتفاق عرفي، تحمل مجاملة بين السائق وبعض الركاب لتغيير النظام دون جلبة، ودون تغيير القواعد الرسمية لتحرك القطار، فلا أحد سيحاسب قطارا هدأ من سيره بمكان ما!
لكن انتهى الحال إلى أن هذه المجاملة صارت قاعدة وحقا مكتسبا، لا يمكن النكوص عنها، وإلا فسيحدث ما لا يُحمد عقباه، وصار هناك جانب آخر للقضية، ألا وهو شيوع الاعتقاد أن الدولة تجامل هؤلاء القادرين على دفع ثمن تذكرة مرتفعة نسبيا، بأن توفر لهم قطارات سريعة لا تتوقف كثيرا بمحطات على طول الطريق، فوجب الانتقام من هؤلاء الذين تدللهم الدولة!
حقيقة الحال لم تدلل الدولة هؤلاء على الإطلاق، بل أنها وضعت لهم ثمن تذكرة مرتفع مقابل خدمة لم يحصلوا عليها كاملة، فالعربة المُكيفة مصابة بأمراض باقي عربات القطار، ولكن بمعدل أقل، فإن كان يؤذيك التدخين فرائحة التبغ المختلطة برائحة دورات المياه ستصلك حتى مقعدك، هذا إن تمكنت من حجز مقعد، ولم تدفع تذكرتك للسفر واقفا، وإن كنت تهرب من الزحام، فالزحام قد عرف طريقه لهذه العربات لقلة عددها مقارنة بأعداد الركاب، وإن كنت تهرب من الباعة والضجيج، فهم يعتبرون راكب العربة المكيفة زبونا طيبا، بل ويرونه أحيانا "جبانا" لا يجرؤ على نهرهم؛ لإفسادهم محاولته للبحث عن الراحة.
فهؤلاء في مجملهم ليسوا بالضرورة مرفهين، ولكنهم قرروا اقتطاع جزء من قوتهم، لإنفاقه على راحة يتوسمونها أو رفقا بأجسادهم مما لا تتحمله، مثلما يقتطع من الغاضبين لأمزجتهم نصيبا لا بأس به من مالهم، يفوق ثمن التذكرة بكثير.
وقد وفرت الدولة لهم أيضا قطارات تمر بمحطاتهم بها عربات "مُكيفة" وأخرى "مميزة"، ولكنّهم أرادوا هذا القطار بعينه لأنه يناسب موعد انصرافهم، كما أن الكمسارى لن يستطيع تغريمهم ثمن تذكرة لمحطة لن يتوقف بها القطار، فلن يدفعوا ثمن الركوب، فقرروا ببساطة أن يسير الأمر وفق قانونهم الخاص الذي هو هواهم في حقيقة الأمر، رغم توافر بدائل أخرى لهم سواء بالقطار أو بوسائل مواصلات أخرى.. وفي النهاية كلفوا الدولة قيمة إصلاحات عربة الديزل والونش وما أصاب باقي العربات، وهي تكلفة أظنها ليست بالقليلة.. فضلا عن إرهاب الآمنين واحتجازهم كرهائن، وتهديد حياتهم، وتبديد وقتهم.. والآمنون لا يعرف لهم الحقوقيون سبيلا!
محاولة الكثيرين لجذب النظام العام والقوانين والقرارات، بل والدواوين والمنشآت والتجمعات والأحياء إلى نحو العشوائية والقبح والفهلوة والقيم المجتمعية الرديئة والسائدة عن رغبة وإصرار أكثر من كونها عن حاجة أو عوَز، هي الواجهة الأكثر تمثيلا لمجتمعنا، والأصدق من حيث التعبير عنه.
وإذا كانت هناك أقلية تحاول الارتقاء بذاتها أو بالمجموع إن أمكن، فهناك قوة مقابلة لا يستهان بها، تحتمي دائما في التزايد، تحاول دوما إفساد هذا التطلع، بالزحف نحو أية مساحة أو فكرة أو قيمة لا تحميها قوانين صارمة، والتوجه بها نحو قيمها المستقرة لدمجهما معا وتسييد قانونها الخاص المدمر، وهؤلاء ناجحون حتى الآن في مسعاهم، باستغلال إجادة الظهور في ثوب المظلوم أو صاحب الحق المهضوم.. ومن العبث الرضوخ لهذه القيم ولأصحابها تحت أية شعارات أو اعتبارات إنسانية زائفة، تحمل في باطنها الهلاك، وإلا فسنسبح جميعا في مستنقعات سامة، لن يتيسر الخروج منها.