التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 11:11 ص , بتوقيت القاهرة

ما استقر إليه الحال

 بانتقالي من مرحلة عمرية عشرينية إلى مرحلة أخرى ثلاثينية، تغيّرت نظرتي المثالية للعديد من الأمور والإشكاليات، وصارت أكثر واقعية، ولكن ما مررنا به منذ 25 يناير 2011 إلى يومنا، قد أخرجني إلى حقبة كاملة مغايرة بكل تفاصيلها.. فربما لو خرج تصريح المستشار محفوظ صابر وزير العدل، مساء السابع والعشرين من يناير 2011 لما ترددت لحظة في اتهام الرجل بالعنصرية والطبقية والرغبة في الاستئثار بالمكاسب التي حازتها عائلته أو طبقته، ولكن حقيقة لم أشعر بهذا على الإطلاق مع تصريحه على صراخته وصدمته.


فبداية إن أردنا الدقة، فليس هناك وقع صدمة على الإطلاق، لكنّها ضرورة الادعاء التي تغمر مجتمعنا، فكما نُصدم من ذبح دواعش ليبيا لمواطنين مصريين مسيحيين، رغم أننا سمعنا دعوات سبهم ولعنهم آلاف المرات بخطب مشايخ مسجلة وعلى منابر المساجد دون أن ننتفض ونتخذ موقفا، بل وتلقى البعض هذه الدعوات بالقبول الحسن وهم ليسوا بالقليل، وتبودلت آلاف العبارات التي تتمنى زوالهم من أرض الإسلام، إلا أن التنفيذ العملي قد واجه المصريين بالفارق بين الدعوة والأمنية من جهة وبشاعة التنفيذ من جهة أخرى.


بل أننا قد نجحنا في جعل الفارق أهون كثيرا من المثال الداعشي الصارخ، بالمعايشة التامة التى يحياها المصريون من جيرة ومأكل ومشرب وتواد مع معارفهم وجيرانهم من الإخوان وشيعهم السلفية، ممن يشعر المجتمع أو يدرك تورطهم في مسيرات العنف أو شبكات الإرهاب، أو على الأقل متورطون بالتأييد المعنوى وتقديم الدعم المادي والتنظير الفكري، ويبرئ المصريون أنفسهم من هذا الدم وينددون بالإرهاب، لكنّهم في ذات الوقت لا يجرأون على اتخاذ موقف معادي من هؤلاء، وكأن من يوادونهم هم قوم آخرين غير أولاء الذين يتخذون جانب الإرهاب ويباركون الدماء، وتبدُ البغضاء من أفواههم مائة مرة في اليوم الواحد.


 صدمة تعليق السيد المستشار محفوظ صابر، وزير العدل السابق، لا تعد صدمة على الإطلاق إلا في جانب الإعلان والتصريح بالقول، وكأن المصريين يتساءلون: حقا؟! أهكذا نحـن؟! وكعادتنا فى إسقاط الشر نحو الآخر، وادعاء المثالية التامة وامتلاك نواصي التدين، فقد حملنا المستشار محفوظ صابر تبعات الموقف، كشيطان رجيم، يُحَّبذ أن يحمل إثمنا ويرحل، في محاولة لغسل اليدين والضمير من حقيقة لا نستطيع  مواجهتها.


ناقش الكثيرون الموقف وتبعاته من منظور حقوقي وإنساني وقيمي ووطني وسياسي، وقد اتفقت الرؤى على تأثيم الرجل وخطأ وجهته، رغم أن الاستبصار الجيد، كان يجب أن يرى أن الرجل قد أجاب على سؤال، أكثر من كونه يستن سُنةً قضائية أو يُشرِّع لإقصاء طبقي، الرجل قد نقل الموقف كما هو موجود في حقيقته، ومرره ضمنيا بقبول شخصي كواقع اجتماعي أكبر من أن يمكن تجاوزه بسهولة بقرار أو بمرسوم، كذا لا يمكن تجاهل إصراره الموازي على احترامه التام لأرباب المهنة وأبنائهم.


ما رأيته أن الرجل كان يجيب عن سؤال وُجّه إليه، وينقل صورة ليس من مهام وظيفته تعديلها، وإن كان أيضا من مهام وظيفته كسياسي بالسلطة التنفيذية، أن تحمل إجابته قدرا من الدبلوماسية غير الصادمة، ولذلك أعتقد أن ضمير القاضي الحاسم غير الكاذب قد غلب مراوغة السياسي لديه؛ لذا أصر الرجل على موقفه حتى بعد استبعاده من وظيفته، فشخصية القاضي غالبة لديه.


نوقشت القضية من منظور المساواة والتنافسية، وهي مساواة زائفة غير متحققة في الواقع اجتماعيا، ليس لأبناء عمال النظافة فقط، بل ومهن أخرى شريفة تأتي فى ذيل طوائف المهن، كحراس العقارات وعاملي تسليك بالوعات الصرف وتشحيم أبواب المحلات وصغار بائعي السلع بالأرصفة والإشارات وعمال دفن الموتى.


ويدرك الجميع أن أول حواجز منع أصحاب المهن وصغارهم من سبل الترقي الاجتماعي، تأتي من نفس المجتمع المنتفض غضبا لمنعهم تولي القضاء، فهو ذات المجتمع الذي يمنح الحسنة ويأنف من أن يلمس يد المتلقي، كي لا ينقل له آفة بجسده، كذا هو من يمنح بعض أتباع المهن البسيطة أسماله البالية، وهم وقوف بباب المنزل دون أن يقدم له الاستضافة، أو يدخله إلى صالون منزله كي لا ترى عيناه ما لا يجب أن تراه.. هذا يعني وجود حاجز اجتماعي صلب بين أرباب المهن الدنيا وبين باقي طبقات المجتمع، وتبلغ الإهانة الاجتماعية ذروتها في ربط اسم المهنة بالقمامة "الزبالة" فيقال "زبّال" بدلا من المسمي المنطقي أنه "النظّاف/ منظِّف" أو "عامل نظافة" نسبة لحقيقة عمله، الذي يزيل ما لوّث به الآخرون بيئتهم أو أخرجوه كنفايات.


وتوفير سبل القبول  والدمج الاجتماعي في رأيي هو أول طريق الترقي، فببلدان أخرى يختلف مظهر وهيئة وحالة وصحة عامل النظافة عما هو في بلادنا، مما قد يتيح معها تقليل هذه الفوارق، وفتح سبل التداخل الاجتماعي بمحاذير أقل، ومن ثم الترقي الاجتماعي عبر جيلين أو ثلاثة قادمة، يصبح بعدها تولي منصب القضاء أو غيره أمرا بديهيا، لا يحتاج لمناقشة مجتمعية، وليس عبر قفزة مباشرة ليست من طبائع الأمور.


والحالة ككل مشتركة بين المجتمع وعمال النظافة، ففي مجتمعنا هناك حالة إصرار أن تكون القمامة في حالة مبعثرة دائما، الأسر الحريصة على إحكام غلق أكياس النفايات تمثل أقلية، كذا الأسر الحريصة على شراء أكياس سوداء مخصصة للنفايات أقل من القليل، والغالبية تميل لاستخدام أكياس مشتريات موجودة بالمنزل؛ لذا فمحتوى القمامة دائما محل ظهور أو بعثرة، هذا بالتبعية يعني أن عامل القمامة لن يتعامل مع "زبون" يراه نظيفا أو حريصا على النظافة، هو فقط يراه فوقيا متعاليا، لكنه لا يمتاز بنظافة مميزة في الغالب.


ويعني أن عامل النظافة سيتعامل مع القمامة دون حاوية تحجب عنه لمس القاذورات، أو تحميه من العدوى والأوبئة.. يعني ذلك أن المجتمع يغرقه في نفاياته دون أدنى تقدير لإنسانيته، وبالتالي يصعب تصديق قبول المجتمع في ذات الوقت لسيادته عليه أو حكمه بين أفراده، فالحالة برمتها حزمة من المواقف المعبَّر عنها سلوكيا، من نتائجها زيادة في الهوة الاجتماعية بين أرباب المهن الدنيا وباقي فئات المجتمع، كذا هناك حرص اجتماعي في أنماط العلاقات الاجتماعية من حيث الصداقة والزمالة والمصاهرة بين فئات المجتمع وأرباب بعض المهن، ربما كانت رواية إحسان عبد القدوس الشهيرة "أنا لا أكذب ولكني أتجمل" من أبرز ما ناقش الفكرة، وعرضت للصراع الاجتماعي المتولد عن فوارق المهن وطبائعها بشكل نفسي مميز، أكثر من كونها فوارق مادية.


والأمر هناك توافق اجتماعي بشأنه، حتى بين الموطن العادي وعامل النظافة، فلم يثر مشكلات طبقية أو عنصرية حتى الآن، فهناك خطوات عديدة يرغب عامل القمامة في اجتيازها تتعلق براتب المهنة وتحسين الدخل، والتأمين الصحي لمهنة هي الأخطر على الإطلاق من الناحية الصحية، وربما ترك المهنة كلها، قبل أن يفكر في إشكالية تولي الابن للقضاء.


في إحدى المرات، كنت بحديقة صغيرة تتوسط مدينتي، ووجدت عامل نظافة "البلدية" يجمع بقايا أطعمة وأكياس الطعام لرواد الحديقة، وتلاقت عينانا، فتلفظت بعبارة تصف من ألقى الفضلات بعدم النظافة، تشجيعا له ودعما، فنظر إليّ عامل النظافة باستخفاف، وخاطبني بلهجة تسفيه تام لرأيي: يعني بلاش الناس تاكل؟!


هناك نوع من التعايش لا يجعله يرى أن ما يقوم به مأساة كما يظن من يرى المشهد من بعيد.


وعلى غزارة ما كُتِب رفضا للرجل وتصريحه، إلا أنني أرى أيضا أغلب من هاجموه على صواب أيضا، ليس لصحة العرض، قدر ما هو لموازنة المشهد، وهو الأهم لمجتمع كمجتمعنا.. الأهم أن نعيش في حالة توازن، الحقائق الصادمة لا يجب إعلانها.. فيدرك الجميع أن ما بني عبر قرون لا يمكن تغييره في فورة غضب وثورة مشاعر سرعان ما ستهبط، وأن هذه الغضبة يدرك أصحابها أنها لن تغير شيئا من الواقع بشقيه السياسي والاجتماعي، وستظل التراتبية الاجتماعية على حالها، وسيحمل رأي المستشار صفة اسمه "محفوظ" وسيظل الرجل بلقبه "صابرا" لإثبات صحة ما قاله أو خطئه أمام اختبار الواقع ومصداقية المجتمع.. فالتغيير ليس بالعواطف الجياشة والأفكار المثالية، وإلا لنجحت شعاراتنا الثورية على كثرتها وقوتها في تغيير واقعنا للأفضل وليس للأسوأ كما جرى.