التوقيت الجمعة، 27 ديسمبر 2024
التوقيت 11:03 م , بتوقيت القاهرة

الغطاء الأخلاقي والديني للتمييز في مجتمعنا

تخيلوا لو أن وزير العدل المستقيل قال التالي:

"شهادة عامل النظافة تجوز في ما دون القضايا الجنائية".

"شهادة القادر ماديا بشهادة اثنين من عمال النظافة".

"لا تقبل شهادة عامل النظافة إن كان المشهود عليه قادرا".

لكان هذا غير مقبول أبدا. أليس كذلك؟! لاعترض الناس - ولهم كل الحق - على هذا التمييز غير المبرر. لقال الشعب المتدين بطبعه، الأرزاق بإيد ربنا، وربنا خلقه فقيرا، تظلمه؟

لكن نفس هؤلاء يقبلون أن تكون شهادة - اللي ربنا خلقها امرأة - نصف شهادة - اللي ربنا خلقه راجل.

ولا تقبل شهادة المسيحي إذا كان المشهود عليه مسلما.

ويقبلون أن يكون نصيب المرأة من إرث أبيها نصف نصيب أخيها. حتى لو كانت هي العائلة، تعمل كما يعمل زوجها، أو غير متزوجة وتعول نفسها، أو مطلقة وعندها أولاد، أو أرملة وعندها أولاد.

ثم إنهم لم يمانعوا من قبل، حتى ألغي الرق في العالم بالقوانين البشرية، أن يكون هناك عبيد، وأن تقبل شهادة العبد في ما دون الجنايات فقط، أو لا تقبل على الإطلاق.

وهذه النقطة بالذات مهمة جدا، لأن احتقار أصحاب الأعمال اليدوية، ولا سيما أعمال "الخدمة"، موروث من أيام ربط الخدمة بالعبودية. أي أننا لا نزال متأثرين بهذا ثقافيا، نتناقله من جيل إلى جيل. كما أننا حتى ولو استحيينا من وضعه في تشريعاتنا فإنه باق في أعرافنا. حتى حين يصل رجل أسود - من أحفاد "العبيد" - إلى رئاسة أمريكا، فإن أول ما عيره به أيمن الظواهري كان "عبد البيت"، وهي كلمة عنصرية جدا جدا، ولم يجد الظواهري في ذلك غضاضة.

لماذا يقبل الناس على أنفسهم أن يتلفظوا بأقاويل كتلك؟ لماذا تقبل المجتمعات تشريعات تمييزية كتلك؟ بل لماذا يقبل بعض ضحايا التمييز التمييز؟ لماذا؟

بسبب النصوص. التي تجعل الإنسان يقبل أشياء لا يقبلها عقله ولا قيمه المعاصرة. ولا قياسه المنطقي لو استخدمه. التي تجعل أبناء هذا العصر يدركون بشاعة التصريح التمييزي بمجرد سماعه من وزير العدل، حين يكون خاصا بـ"عامل النظافة"، لكنهم لا يلتفتون إليه ولا يزعجهم إن كان يتناول أختهم، وأمهم، وابنتهم. أو يكدر حياة جارهم وصديق طفولتهم. أو يتناول "الخدم" القدماء.

 ما هذا! ما هذا!

لقد كانت الأحكام التي حملتها النصوص مقبولة في عصرها. بل بعضها كان تقدميا في عصره. لكن سدنة النصوص، رجال الدين، يريدون لها أن تبقى على الدوام بدعوى أنها صالحة لكل زمان ومكان.

ثم إنهم، حتى لو قبلوا تغيير بعضها تحت ضغط التقدم البشري، يحرصون على بقاء ثغرة يتسللون منها لكي يبقوا على المفاهيم التمييزية نفسها "لوقت عوزة".

أين الثغرة في القانون المصري الحالي؟ كثير.

أولها مادة الشريعة الإسلامية. وهي مادة محبوبة جدا من الناس وتحظى بتأييد كبير. رغم أنها - في الواقع - المادة التي تبقي على التمييز ضد النساء، والتمييز ضد مختلفي الديانة. وكله تمييز بالقانون. في المحافل التي يجب أن ترفع شعار العدل، وتحققه.

ثانيها غياب العقوبة الرادعة على جرائم التمييز. (عيشوا في الغرب الكافر واتفرجوا على عقوبة التمييز لأي سبب).

ثالثا الالتفاف على المواثيق الدولية العصرية الخاصة بالحقوق بالعبارة المراوغة: "إلا ما خالف الشريعة الإسلامية". والتي تجعل تلك المواثيق أمام القانون مجرد حبر على ورق.

لماذا يظن أناس أن ربط الشريعة الإسلامية بالتمييز انتصار لها؟! ليس هذا سؤالا إنشائيا. إنما سؤال له إجابة. لأن مصالحهم، مهنتهم، تقتضي أن تبقى الشريعة الإسلامية سلطة على التفكير البشري، والتقدم المجتمعي. لولا ذلك لجلسوا في البيوت بلا شغلة ولا مشغلة. لذلك يقفون ضد التجديد. لذلك يغضبون جدا إن تحدثنا عن العالمانية ويشوهونها بكل وسيلة ممكنة. لكن بعضهم الآخر لا يستحيي أن يجعل من نفسه نصير الفقراء، وهو مؤمن بالتمييز ضد المرأة وضد غير المسلمين.