التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 03:34 ص , بتوقيت القاهرة

عن الهري وفوائده للمجتمع المصري؟

 من أهم الظواهر المُنتشرة حاليا هي ظاهرة (الهري) على وسائل التواصل الاجتماعي كـ "فيس بوك" و"تويتر".. يحمل الكثيرون- بالأخص من الأجيال الأقدم- حنقا شديدا تجاه هذه الظاهرة لأسباب متعددة سنناقشها هنا.

في الواقع فإن رفض هذه الظاهرة يعود لأن معظم (الهري) على وسائل التواصل هو عبارة عن (فتي)، يقوم به شخص أو مجموعة أشخاص مستخدمين معلومات خاطئة أو استدلالات خاطئة أو انحيازات تخالف ما يدّعونه فتظهرهم متناقضين. بل أن كثيرا من اتجاهات الهري في موضوع معين يقوم بتحديدها عدد من الأشخاص يتفقون معا مسبقا على موضوع للنفخ فيه أو التقليل منه، أو نشر معلومات خاطئة أو حجج هزيلة دفاعا أو هجوما عليه، هو عمل يشبه كثيرا فكرة اللجان الإلكترونية، التي ظهر اسمها للوجود في أواخر حكم مبارك.

 ولكن في الواقع فهذه اللجان جاءت كرد فعل على لجان تفوّق الإخوان في استخدامها لمدة طويلة لصناعة رأي عام، ثم أصبحت هناك مجموعات و"شِلل" تتحرك وتنتفض لأحد أفرادها وتشيع ما تشاء على "فيس بوك" و"تويتر"، والذي غالبا ما يكون هراءً غير صحيح أو كلاما مغلوط منطقيا، ولكن يتم ترويجه على أوسع نطاق.

هذا هو سبب أن كتلة الاستقرار والأجيال الأكبر عموما تضيق من وسائل التواصل؛ لأنها كأجيال تلقت المعلومة بالبحث المُضني عن كتاب أو مقال لشهور وأيام لذا  يستفزها بشدة فكرة أن ينتشر كل هذا الجهل في المجتمع، بينما المعلومة الصحيحة على بعد خطوة أو اثنتين، ويشعر هؤلاء عموما أن الشباب أصبح تافها، وسلم عقله لشراذم تحركه في كل اتجاه، وبالتالي فلا جدوى من محاورة هؤلاء لأنهم مغيبون عقليا، وتجسيد لعقلية القطيع التي تتحرك بشكل غرائزي في اتجاه معين دون أن تفكر.

فإذا أضفنا إلى ذلك ما توفره وسائل التواصل من إمكانية تضخيم الشعور بالذات عبر الانتشار والنجومية وعلامات الإعجاب والمشاركة وإعادة التغريد.. إلخ، فإننا إزاء حالة ترضي "الإيجو" وتضخمه لدى كثير من الشباب صغار السن الذين يبحثون - وهذا حقهم- عما يثبتون به ذواتهم في مجتمع يحاصر أفكارهم ومشاعرهم ورغباتهم، ويحاول تحويلهم جميعا لنسخ من نماذجه سابقة التجهيز.

وإذا أضفنا لهذا كله التصورات الرومانسية للأصغر سنا وتلخيصهم المشاكل تلخيصا مخلا، بالضبط كما يفعل "تويتر" عندما تحاول عن طريقه تلخيص قضية معقدة في 140 حرفا. فإن النتيجة هي هذه الحالة الغريبة التي ينتج عنها كل يوم صرعة جديدة أو حدوتة أو موضوع جديد للهري، يُدلي فيه الجميع برأيهم حتي بدون أي معرفة، وهو ما يستفز الكثيرين، ويشعرهم أننا نستهلك الوقت في نقاشات عقيمة لدرجة أن البعض وصل لمراحل معقدة من نظرية المؤامرة  فهو يظن أن كل موضوع يتم طرحه هو محاولة حكومية للإلهاء عن الفشل الفلاني أو محاولة إخوانية للتغطية عن الجريمة الفلانية أو مؤامرة دولية  للتقليل من الإنجازات.. إلخ، وبالتالي فإن كثيرين يرون (أن الشعب فاضي عشان كدة بيحكي في كلام فارغ)، وبرغم أن كل هذه الحجج تحتوي على شيء من الصحة، ولكنّها ليست صحيحة، لأنها تتجاهل مكمن المشكلة، وتتجاهل لماذا احتلت وسائل التواصل هذا الدور.

في كل المجتمعات هناك أرضية مشتركة من الأفكار والقيم يؤمن بها المجتمع أو 95% منه وتؤسس لمنظومته المعرفية. هذه المنظومة المعرفية تطوّرت عبر القرون، وأصبحت ملائمة للعصر، ولأن هناك قيما معينة كالحرية والديمقراطية والعلمانية والمنهج العلمي في التفكير ونسبية الصواب والخطأ والقدرة على التمييز بين الخاص والعام.. إلخ، أصبحت راسخة في تلك المجتمعات، فإنها تأخذ طريقها لتصبح جزءا من التعليم الموجه للأطفال، ثم جزءا من الثقافة العامة ومن الذوق العام ومن الأمور المعروفة بالبداهة ودون حاجة لنقاشها common sense.

هذه القيم لم تكن كذلك قبل 500 عام، بل قاتل من أجل نشرها كتاب ومفكرون، نشروا كتبهم وكتبوا مقالاتهم واجتمعوا في صالونات التنوير في القرن الثامن عشر ليناقشوا أفكارهم معا وينقحوها، وخاضوا معارك فكرية وسياسية كتوسيع حق الاقتراع والعمل لإقرار مبدأ الفصل بين السلطات ومقاومة الاستعمار والصراع ضد العنصرية اللونية وإعطاء المرأة حق الانتخاب.. الخ. 

كل هذه المبادئ تم إرساؤها في خمسة قرون أو أكثر، فالديمقراطية الليبرالية مثلا لم تنتصر عالميا؛ لتتحول من بديل ضمن بدائل إلى أساس ثقافي ومعرفي للدولة الحديثة إلا بعد نهاية الحرب الباردة، أي منذ ربع قرن، أما قبل ذلك فقد كانت تقاتل لتكتسب أرضا لها في ساحة المعارك المختلفة طيلة سنوات وعقود طويلة.

المهم هنا أنك لو عشت في مجتمع غربي فستعيش الحرية فعلا، قد لا تكون محتاجا لدراسة مفاهيم عميقة عن الأسس الفلسفية لنظريات الحقوق والواجبات ومعنى الحرية؛ لأن المعنى يصلك في الممارسة اليومية لغالبية المواطنين، وفي غالبية الممارسات الحكومية معك. فالمفاهيم النظرية تحولت إلى قواعد وتشريعات ثم طبقت، ثم تعلمها الأصغر منذ حداثة سنهم، ثم أصبحت جزءا من منظومتهم المعرفية، لدرجة أنه حتى الأجنبي الذي لم  يتلق تعليمه هناك يجد تطبيق هذه المبادئ في كل ما يحيط به دون الحاجة للحصول على دروس أو مناقشة.

بل أن كثيرا من أبناء ثقافتنا يصدمون عند إقامتهم بالخارج عندما يشاهدون كيف يتعلم أبناؤهم أسس الحرية والديمقراطية بسلاسة وعبر وسائل تفاعلية غير تلقينية وهم في سن مبكرة للغاية، بل أن هناك برامج خاصة للاندماج تتم للتعامل مع القادمين من أماكن معينة لا سيما العرب والمسلمون، الذين يحملون خلفية ثقافية مظلمة فيما يخص المرأة والاعتقاد والحريات عموما.

والآن لنعد لمجتمعنا قد يغضب البعض ويسخر ويقول هل وصلنا إلى سخافة مناقشة البديهيات: هل سنناقش حق المرأة في ارتداء ما تشاء وحقها في العمل أم أن موضوع خلع الحجاب والاصلاح الفكري سخافة، هل سنناقش حرية الاعتقاد وحق كل شخص في طرح رؤيته الدينية الخاصة أم أن موضوع إسلام بحيري سخافة، هل سنناقش علاقة المواطن برجل الشرطة وهيبة الشرطة واحترام حقوق المواطن، حتى لو  كان متهما أم أن موضوع ياسمين النرش سخافة، هل سنناقش فكرة حصانة شخص بسبب شهرته أم أن موضوع أبو تريكة سخافة، هل سنناقش  كون  الدولة  تشجع قيم الترقي الرأسمالية كالاجتهاد والكفاءة والطموح أم القيم الطبقية الوراثية، أم أن مناقشة تصريحات وزير العدل سخافة؟

يعتبر البعض أن هذه الموضوعات أسخف من أن تناقش لأننا نناقش بديهيات وهذا خطأ جسيم، فمجتمعنا لم يحسم بديهياته بعد، مجتمعنا مفتت .فتعليمه مسخرة بين حكومي تجريبي أزهري خاص لغات أجنبي، وثقافته مصرية وعربية وإسلامية ومسيحية ومتوسطية وغربية، ومنظومته القضائية والفكرية قبلية وريفية ومدينية ومدنية وعرفية وعلمانية ودينية، وتطلعاته رجعية وحداثية تتراوح ما بين استعمار العالم وأستاذيته إلى فكرة الانتماء والمشاركة في العالم الحر. حتى تاريخنا مكتوب لدى الباحث المدقق بشكل يخالف ما يكتبه الاسلاميون، وهو شكل لا يتفق مع ما يراه النشطاء الأقباط مثلا.

لديك من كل شيء عدة نسخ ودرجة الخلاف بينها ليست قليلة. وليس هذا هو ما يطلق عليه حرية رأي لأن درجة التباين مرعبة، وهناك حاجة في أي مجتمع لمجموعة قيم مؤسسة يتفق عليها الجميع، هل كنت ستحتاج إلى عشرات من النقاشات لتُقنع بضعة أشخاص بحق فتاة في ارتداء ما تشاء أو عدم أحقية والدها أو شقيقها في ضربهالو أن هناك منظومة قيمية واحدة تجمعنا؟ هل يحتاج إثبات أن أبو تريكة مش على رأسه ريشة لمجهود؟

نعم قال الأبنودي إحنا شعبين، وقال علي الحجار إحنا شعب وهما شعب، لكن في الواقع نحن أكثر من ذلك. نحن مجموعة شعوب في دولة واحدة يوحدهم فقط إيمانهم بالدولة، وهذا ما يجعلنا أفضل من جيراننا الذين يغيب عنهم هذا الإيمان، فتحولوا إلى دول كدول لبنان ودول العراق ودول سوريا ودول ليبيا ودول اليمن.. إلخ.

لهذا السبب فإنّ الهري الفيسبوكي والتويتري يبدو هنا كمرآة للمجتمع المتعلم. تخيل أنك استبعدت الأميين ومن لا يستخدمون الكمبيوتر، وأوجدت هذا المجتمع الذي من المفترض أنه يُعبر عبر مستخدميه في مصر الذين يعدون بالملايين عن الرأي العام، ألا تشكل ردود أفعالهم وتفاعلاتهم مع القضايا مؤشرا هاما لقيم المجتمع. عندما تجد الملايين يهاجمون حرية شخص أو مساواة المواطنين أمام القانون أو عندما تجد شبابا يُفترض أنهم متعلمين يعقدون مقارنات ساذجة تساوي بين إرهابي وفرد الأمن أو ينشرون أكذوبة واضحة عن موقع مغمور كترجمة لموقع أجنبي لم يذكر ذلك، برغم كون الموقع يمكن الوصول له بسهولة أليس هذا دليلا علي انتشار الجهل ، عندما يحدث كل ذلك فإننا في مشكلة أيها السادة.

إننا في مشكلة ضخمة لأن ما ينقص الناس ليس مرحلة معايشة الحرية والاستمتاع بها وبمنتجات قيم الحداثة ،ولا المرحلة التي تسبقها التي يتعلم فيها الناس هذه القيم في المدارس لزرعها فيهم لتثبيتها في المجتمع، ولا المرحلة التي تسبقهاوهي ضبط التشريعات والقوانين لتتواءم معها، ولا المرحلة التي تسبقها وهي توافق غالبية المجتمع عليها لفرض حماية هذه القيم قانونا، ولا المرحلة التي تسبقها وهي اتفاق غالبية النخب على هذه القيم، بل نحن في المرحلة البدائية التي يحاول فيها بعض هؤلاء الشجعان مواجهة بقية النخبة أولا ومحاولة تغيير آرائهم بالإقناع.

هل هناك نخبة سليمة في بلد تجد فيه رجل قانون ينظر للطبقية (بالعرق دساس) وسياسي يعلن رفضه (لحزب علماني)، وإعلام يعتبر (العلمانية الحاد) وناشطات نسويات يرفضن (حقوق المرأة التي لا توافق الشريعة).. إلخ ؟ لهذا  كله فوسائل التواصل تفعل في الواقع ما لم تفعله المدرسة ولا الكتاب ولا المثقف الجبان ولا السياسي المرتعد، تفتح باب النقاش وتخاطب العقول فتوسع دائرة المعرفة، لأنه كما نعرف فلا بد أن تنتصر المعرفة على الجهل وإن طال الوقت.

قبل أيام لامني شخص أعتز به كثيرا، رغم اختلافي مع بعض مواقفه، على فكرة أنني أقضي وقتا في محاولة إقناع الناس بدأب بوجهات نظري على "فيس بوك"  قائلا: إن هؤلاء غوغاء لا يفهمون ما تقول فلا تضيع وقتك معهم. كان هذا نموذجًا مرة أخرى لانعزال المثقف الحقيقي والذي يجب في هذه اللحظة أن ينزل ليقاتل ويشتبك دفاعا عن أفكاره، خصوصا في ظل ندرة عملته في هذا البلد، ولكنّه بتنظير اكتئابي لا مثيل له يفضل الانزواء والفرجة ولعن الظلام بدلا من إضاءة شمعة.

هري "فيس بوك" و"تويتر" مفيد يا سادة لأنك لا تستطيع تغيير أو تطوير قناعاتك وقناعات الناس إلا بمناقشتهم وتعريفهم بعيوب منهجهم أو بتعريفهم لك بعيوب منهجك. هو مفيد لأنك تصنع رأيا عاما لبلد بلا رأي عام مبني على أسس سليمة وغالبية الآراء الشائعة فيها مبنية على أكاذيب أو مبالغات أو مغالطات منطقية.

قد يكون هناك سعي مستمر من أطراف سياسية بعينها أهمها الإخوان ومن تحالفوا معهم من بعض القوى الثورية لتحويل وسائل التواصل لساحة منفردة لهم، ولكن ليس الرد على ذلك أن تترك لهم الساحة بزعم أنهم يفرضون عليك رأيهم، بل أن تواجههم في كل معركة تختار أن تخوضها طالما اختلفت معهم، لأنه حتى لو لم تستطع إقناعهم بفرض أنهم لا يريدون نقاشا، فإن النقاش وحده قادر على إقناع غيرهم من المعجبين ببعض أطروحاتهم التي يصيغونها بعناية لتوافق الهوي الشعبي.

إن خلق تجمعات فكرية على أساس النقاشات والحجج هي اللبنة الأولى للتجمعات الحزبية والسياسية، التي تستطيع ملء الفراغ السياسي، هذه التجمعات صحيح أنها يجب ألا تظل محصورة على مواقع الإنترنت، بل أن تنتقل للعمل في الشارع، ولكن من الضروري أن تتأسس أولا على أسس فكرية. وهذا التأسيس والتأصيل غير متاح بحرية إلا في حرية هري وسائل التواصل.

فلنستمتع بالهري اذن دون أن نلوم أنفسنا كثيرا.

 

للتواصل مع الكاتب.