البراجماتية منبع "الأخلاق الحميدة"
لماذا جرم البشر القتل؟
البشر قادرون على القتل. عدد كبير منهم يتدرب على القتل - في الجيوش - ويقتل. وعدد كبير آخر يقتل متباهيا بنضال في سبيل فكرة أو جهاد في سبيل عقيدة. وكلنا، تقريبا، قد نقتل أو نحاول أن نقتل إن اضطررنا إلى ذلك. وعدد لا بأس به يقتل شخصا بجريرة شخص آخر، ويعتبرون أن هذا قصاص مبرر.
أقصد أن القتل مجرد فعل. مهارة ربما تكون حيازتها حدا فاصلا بين حياة وموت، وبين حرية واستضعاف. إدانة الفعل أو تمجيده مرتبطة بالظروف المصاحبة له. وبالتالي مرتبطة بما تقرره المجتمعات البشرية أنفع لها. وأننا من هذا الباب، وهذا الباب فقط، جرمنا القتل حضارة بعد حضارة، ومجتمعا بعد مجتمع، وجيلا بعد جيل.
النفور من فعل القتل نتيجة لهذا التجريم، وليس سابقا له. أي أن تجريم القتل بسبب المنفعة المتحققة من تجريمه، ليس لأن "القتل وحش" والسلام. عرفت الإنسانة أن المنفعة المتحققة لها لو قتلت لا تساوي الخسارة لو تعرضت للقتل، وتعرض أحباؤها للقتل. علمت أن فرصتها لكي تستفيد من القتل قليلة في مقابل الفرص العديدة جدا لأن تتعرض للقتل. على اعتبار أنها إنسانة واحدة، والبشر كثير. بل إن كل المكاسب المتحققة من فرص أن تقتل لا تساوي شيئا أمام فرصة واحدة لأن تُقتل. لقد جرم البشر القتل لأن عواقبه سيئة.
استخدمت القتل لأنه جريمة واضحة، وسلوك مرفوض، تكاد البشرية تجمع - نظريا - على إدانته وتجريمه.
لكن ما ينطبق على القتل ينطبق على باقي الأخلاق والسلوكيات. أحبها البشر أو نفروا منها بطريقة تفكير واحدة - البراجماتية. مظنة تحقيق النفع. حساب عواقبه الدنيوية على المدى القصير والطويل. وهذا بيت القصيد.
البراجماتية أكثر أخلاقية وإنسانية من النصوصية. أن يفهم ابنك أو ابنتك الأسباب الموضوعية وراء حب سلوك ما أو كرهه، خير من أن تفعله أو تتجنبه لمجرد "هو كده"، أو لأن هناك تشريعا أو حكمة قديمة أو مقولة مأثورة نصت على ذلك.
ليس هذا فحسب، بل إن التفكير البراجماتي يكسب مرونة أخلاقية، تسمح للمجتمعات بتطوير نفسها، وبالتكيف مع الظروف الجديدة. بينما النصوصية تصيب المجتمعات بالتيبس والجمود، وتحول كل جيل إلى نسخة من جيل سابق، رغم اختلاف نمط العيش وظروفه وأدواته.
والتكفير البراجماتي في الأخلاق يوسع الأفق ويقلل إلى قدر الإمكان من التطرف. سأشرح هذه الفكرة.
هل الصدق فضيلة؟ معظمنا سنقول نعم. السؤال التالي: هل الصدق 100? فضيلة؟ هنا يلزم التأني، لأن الصدق 100? - لو وجد - لا يطاق، سيكون سببا في مشاحنات بين الأفراد لا تنتهي. كما أنه منفر وفظ. ومرتبط بالأشخاص الذين يظنون أن من حقهم التعديل على من حولهم ليل نهار. كما أنه كاشف للأسرار ومنتهك للخصوصية. في جملة واحدة: ضرره أكثر من نفعه كثيرا.
الدرجة اللطيفة من الصدق، التي نحبها، هي في الواقع خليط من بهار الصدق وبهار الكذب وبهار الكتمان وبهار مراعاة أحاسيس الآخرين. خليط لا تدركه النصوصية الأخلاقية، لأنها تريد أوامر واضحة. لكن تدرجه منتجات البراجماتية الأخلاقية: التفهم، قياس النفع والضرر، التفكير في العواقب الحياتية قصيرة الأمد وطويلة الأمد.
ما سميته منتجات البراجماتية الأخلاقية هو ما نترجمه إلى تعدد الأبعاد والعمق، في مقابل ثقافة الأبيض والأسود، الحلال والحرام، اليمين واليسار، إلخ. الأول يساوي نسبية النظر إلى كل شيء، والمقابل يساوي التطرف.
وهذا ينعكس - كنمط تفكير - في كل شؤون حياتنا الأخرى، سياسيا ومجتمعيا واقتصاديا. يعلمنا أن نفكر في العواقب، أن نسعى إلى نفع الناس، أن نجرب ونختار الأنفع.
بل يؤثر حتى على لغتنا وإنتاجنا الأدبي والفني. المجتمعات التي تنتج سينما وأدبا إنسانيين، مشغولين بإشاعة التفهم لا بإطلاق الأحكام، مشغولين بالإضاءة على ما لا نعلمه بدلا من الوعظ بما نعلمه، لا تنتجهما من فراغ. بل تنتجهما من طريقة تفكير نقدية، براجماتية، تجعل السلوك مرتبطا بعشرات المفردات اللغوية المتدرجة في ظلال. تجعل الجملة ثرية في المفردات، والمفردة ثرية في التجديد لإصابة معنى دقيق. تجعلنا مشغولين بالاستنتاج بناء على تجربة، وليس بالاجترار من مخزون قديم.
ثم إن البراجماتية تعلمنا أن ننشغل بالمهارات التي تعود بالنفع، بدل الحديث العقيم عن القيم المطلقة التي لا يمكن قياسها. اجلسي مع أصدقاء من بيئات مختلفة. ستجدين أبناء المجتمعات البراجماتية يتباهون - لو فعلوا - بمهارة ما، شيء ملموس. أما أبناء المجتمعات النصوصية فيتحدثون عن أشياء من قبيل "أصل أنا حقاني، أصلي مابعرفش أنافق" "كلهم قالوا كذا لكن أنا وقفت وقلت لأ..هي كذا" مجتمعات عايشة في دور عباس الضو، توزع على أفرادها مطارق القضاة يدقون بها على رؤوس الآخرين ليل نهار.
أقول هذا وفي ذهني الجدل السياسي حول العالمانية. هل العالمانية كانت أفضل لمجتمعاتها أم لا. انظري حولك.