التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 06:53 م , بتوقيت القاهرة

الاحتلال والاستبداد والسلفيون هم السبب

ثلاثة مشاهد يجب رصدها جيدا قبل الخوض في الحديث عن داعش.. الظاهرة مُعقدة ويختلط فيها السياسي بالاجتماعي بالديني، وكل مكون لا يعمل بمعزل عن الآخر. التاريخ الشعوبي كله يحمل آثارا مقدسة للقتل والاحتلال، لكن صفحات التاريخ وحدها لا تصنع قتلة، كما أن الصفحات المضيئة لا تنقذ الحاضر من المشكلات والتخلف.


قدماء المصريين صنعوا حضارة عظيمة لكنّ أحفادهم الآن يقعون في بلاّعات المجاري ويشربون الماء الملوث. كذلك اليونانيون والفرس. كلها صفحات تختلف كثيرا عن حاضر كل شعب. وكذلك العوامل السياسية والاجتماعية. كلها تتضافر لصنع مزيج نهائي ما، وإن كانت السياسة سيدة الموقف. 


بمتابعة خريطة التسليح في العالم من حيث الإنتاج والتصدير والتحكم في السوق، تجد أن 80% من سلاح العالم تنتجه وتبيعه خمس دول فقط، هي:


أمريكا، بنسبة 33% من إجمالي بيع وإنتاج السلاح في العالم. 
روسيا، 27%
الصين وفرنسا مجتمعين، 10% 
ألمانيا 8%
والنسب قابلة للزيادة والنقصان في حدود طفيفة لا تؤثر في الناتج الإجمالي.


هذه الدول هي التي تستطيع إقامة حروب أو إخمادها أو التأثير على مسارها بضخ السلاح هنا ومنعه هناك. هذه الدول هي اليد الخفية التي تتحكم في مصير ونتيجة الكثير من المواجهات المسلحة ولو لم تظهر بشكلٍ علنيّ. هم من يملكون البارود وفوهة المدافع وزناد الإطلاق. وهم من يجني الأرباح.


وفي النهاية يصير المسلمون، الجهلة والحمقى من مستخدمي السلاح، قتلة وسفاحين، في نظر العالم، بينما من يصنع أداة الموت نفسه يظل رجلا متحضرا وقورا يدافع عن حقوق السنافر والدب القطبي والحوت الأزرق.


وتكلفة هذا السلاح ليس فقط الموت المباشر بأيدي المعاتيه، لكن له تكلفة بيئة عالية الثمن، حيث إن مصانع إنتاج السلاح هي الأعلى في استهلاك الوقود وانبعاث الأدخنة والملوثات التي تؤثر على المناخ العالمي وصحة الناس ومصير الكوكب.. أيوا ممكن الكوكب بتاعنا يتعرض لكارثة بيئية كبيرة نتيجة التلوث والاحتباس الحراري.


دون شك نحتاج إلى تجديد الخطاب الديني، لكن من الأولى نحتاج إلى تجديد الفكر الحداثي، أو ما بعد الحداثي، الأوروبي والأمريكي، الذي هو مسؤول عن التحضر الإنساني الكبير الذي نعيشه، كما أنه الممول الأول للموت والخراب في هذه الحياة.


(2) 
بعد الكشف الأخير الذي أعلنته "دير شبيجل" و"لوموند"، عن سمير عبد النبي، الشخصية المحورية التي أنشأت تنظيم داعش، والحصول على كافة الأوراق التي رسم فيها بنية التنظيم الأول، بعد أن أطلق لحيته وغير اسمه إلى اسم حركي الحاج بكر، وهو ضابط برتبة عقيد بالمخابرات الجوية العراقية في أثناء عهد صدام حسين، وقام بالتخطيط لدولة إسلامية على الحدود السورية العراقية، مسغلا الفوضى، تنكيلا وانتقاما من سقوط نظام البعث.


وكشفت الجريدة أن بيت الرجل كان يخلو من أي مظاهر إسلامية، بل لم يوجد فيه مصحف واحد.
لم يجدوا في أوراق مخطط داعش الأصلي "حجي بكر" أو تفسير الطبري أو فتاوى ابن تيمية، أو صحيح البخاري، ولم يرصدوا أي اهتمام يذكر بانتمائه الديني أو حرصه على أي صلات بعقيدة بعينها، إنما استغل مزيجًا من مشاعر التعصب والجهل وكراهية الاحتلال وإزكاء نار الطائفية، مع لمسة من خبرته السابقة في العمل المخابراتي في التلصص ورصد المعلومات والكشف عن نقاط الضعف في مدن بعينها ثم قام باستهدافها، مستعينا بعشرات من ضباط الجيش العراقي المنحل.


وكانت خطة  "بكر" هي التوجه إلى قرية تل رفعت شمال حلب، لما عرفت عنه هذه القرية من ذهاب الكثير من سكانها إلى دول الخليج وخاصة السعودية للعمل بها ثم العودة محملين بأفكار السلفية الوهابية ضيقة الأفق والمتطرفة، والتي تحكم على الناس بالكفر بالشبهة، وتحقر من شأن المرأة، وتكره الآخر، وتعادي كل قيم الحداثة.


وهنا يظهر جليا نشأة تلك التنظيمات المتطرفة..
بسلاح أمريكي وأوروبي. وتخطيط مخابراتي لقوميين عملوا في أنظمة قمعية مجنونة ومتعصبة. وأفكار وهابية متطرفة غلّبت مدرسة النص على مدرسة الفقه والفهم. وأخذت أسوأ صور التاريخ (ابن تيمية، وابن عبد الوهاب) وهما قد نشئا في مراحل تاريخية مليئة بالحروب والاضطرابات فأنشوا فقها ملائما لذلك.


(3) 
الصورة الثالثة هي المواجهات الدامية الآن في أفغانستان بين تنظيم داعش وبين حركة طالبان، وكلتاهما حركة سلفية تكفيرية تنهل من ذات النبع الفقهي وذات الفهم السطحي المتشنج.


والخلافات بينهما، هي خلافات سياسية، على الأرض وتصدر المشهد الإعلامي وتجنيد الأتباع، والسطو والبغي في الأرض. هناك بعض التفسيرات تقول إن الخلاف بين داعش وطالبان يتمثل في مسألة مبايعة الحاكم الظاهر المتغلب، فإن نازعه أحد وجب قتال المنازع الذي يشق عصا الجماعة. لكن حتى هذه التخريجة غير مستقرة، لأن طالبان تشن هجوما على داعش رغم أن حاكمها "الملا عمر" ليس ظاهرا ولا متغلبا ولا ذي شوكة، بل هو رجل هارب منذ أكثر من عشر سنين على متن دراجة بخارية اختفى بها وسط الجبال.


كذلك أبو بكر البغدادي، وهو الآن محاصر بين نيران السماء بقوات التحالف ونيران الأرض بعتاد الجيش العراقي، لم يظهر سوى مرة واحدة لبضع دقائق ولا يستطيع أن يمارس حياته "كخليفة" أو أمير المؤمنين، الذي يمشي في الطرقات وينام أسفل شجرة ويأمن على نفسه ورعيته، ويسافر بين ربوع مملكته. حتى صفة الحاكم المتغلب لا تستقيم، وإن كانت تنطبق أكثر على مسعود برازاني أو حيدر العبادي أو حتى بشار الأسد الذي لا زال يعقد انتخابات ويمشي في بعض الأحياء ويلتقي صحفيي الغرب، أكثر من انطباقها على البغدادي والملا عمر.


والواقع يقول إن الخلافات الحقيقية بين داعش وطالبان سببها الأساسي هو مصادر التمويل الضخمة التي استولت عليها داعش من بيع حصص النفط أو تهريب الآثار والسطو على بعض البنوك. ومن ينتقل من طالبان إلى داعش يكون بوازع الربح والحصول على عوائد قتال أعلى، ولا تعدو تخريجة "الحاكم المتغلب" إلا أن تكون ستارا هشا.


الاحتلال والاستبداد والتفكير السلفي الوهابي المتخلف هم سبب الظاهرة.. وكلهم متحالفون، فأمريكا صديق لكثير من المستبدين بل ساعدتهم على المزيد من القمع والتخريب، كذلك الولايات المتحدة متحالفة مع أنظمة وهابية منذ ما يقرب من قرن ولم تجد في ذلك مشكلة.