التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 10:57 ص , بتوقيت القاهرة

الحزب العلماني والمدام والأولاد والبيت والعمل والوطن

يستطيع الفرد أن يتزوج وأن يُنجب الأطفال، لكن إذا لم يوثق زواجه ولا ميلاد أطفاله (وفقًا للقانون) لا يحق له الاستياء من عدم اعتراف الدولة بزواجه وأبوته. إذا أردت أن تمضي ليلة في فندق بصحبة "المدام" عليك أن تُقدم ما يثبت لإدارة الفندق أنها "المدام". كذلك لا يُمكنك أن تتهم مسؤولي الإدارة التعليمية بالتعسف إذا طالبوك بإبراز شهادة ميلاد "الأمور" أو "الكتكوتة" التي تثبت ولايتك عليهما في حالة توفرت لك الرغبة في إلحاق أحدهما أو كلاهما بركب التعليم.


من حقك أن تشتري أرضًا وتبني عليها بيتًا، كذلك من حقك أن تشتري شقة في عمارة لتسكن فيها أو تؤجرها أو تحولها مكتبا أو عيادة أو تغلقها. لكن ليس من حقك أن تُطالب الدولة بأن تمنحك عدادًا كهربائيًا إذا لم تمنح أنت الدولة أولاً ما يثبت ملكيتك لهذه العين شراءً أو إرثاً أو تنازلاً أو هبةً. ويُمكنك أن تفتح شركة أو دكان وتوظف الناس وتمنحهم أعمالاً يرتزقون منها، لكن إذا طلب منك الضابط أن تركب "البوكس" لأنك لا تملك سجلاً تجاريًا ولا بطاقةً ضريبية ولا تعرف هيئة التأمينات الاجتماعية شيئًا عن عمالك وموظفيك، فمن الحكمة ألا تتطاول على الضابط، حتى لا تضاف إلى تهمك تهمةُ الاعتداء على موظف رسمي أثناء تأدية عمله.


إذن الالتزام بالقوانين المنظمة لأي نشاط إنساني هو ما يمنح الأفراد الحق في ممارسة هذه الأنشطة، كما أن خرق هذه القوانين المنظمة هو ما يسلبنا هذه الحقوق تمامًا. لكن هناك نقطة جديرة بالاعتبار، وهي أن القوانين لا تحاسب الأفراد على النوايا وخبايا النفوس، بل تحاسبهم على سلوكهم فحسب.


تستطيع أن تمقت زوجتك وأولادك من صميم قلبك وتدعو الله أن يميتهم جميعًا، لكن إذا لم تقترن كراهيتك تلك بإهانتهم لفظًا أو فعلاً، وإذا لم تتوقف عن الإنفاق عليهم وحمايتهم وتوفير احتياجاتهم، فأنت وبمنتهى الأمانة زوجٌ وأبٌ صالح. إذا كنت تحملُ لموظفيك وعمالك كل مشاعر الاحتقار لكنك تلتزم بسداد رواتبهم ومنحهم حقوقهم التي كفلها لهم القانون فأنت رب عمل عادل وشريف. إذا كنت تتلوى على الأرض من فرط السخط في كل مرة تسدد فيها ضرائبك أو تسدد فيها فاتورة الكهرباء أو أي رسوم شبيهة، وترى أن الدولة لا حق لها فيما تسلبه منك من أموال، لكنّك ومع كل ذلك تسددها فأنت مواطنٌ شريف. إذا كنت تحتقر جيرانك وزملاءك وأقاربك وكل الناس بلا استثناء، لكنك لا تؤذي أيًا منهم بالقول أو الفعل فأنت جدير بأن يمنحك الناس ذات الاحترام الذي يمنحونه للأولياء والقديسين.


إذن أن يقوم تجمعٌ من الأفراد، منحوا أنفسهم اسم الحزب العلماني المصري، بدعوة المواطنين إلى عمل توكيلات رسمية لهذا التجمع سعيًا وراء إنشاء حزب سياسي بذات الاسم، لا يعني غير أنهم سلكوا المسلك القانوني لمنح تجمعهم الصفة القانونية التي تمكنهم من ممارسة حقوقهم السياسية والدعوة لأفكارهم في إطار قانوني. وهو سلوكٌ جدير بالاحترام لتوافقه التام مع القوانين المنظمة للحقوق السياسية.


وإذا نجح الحزب العلماني المصري (تحت التأسيس) في الحصول على عدد التوكيلات اللازمة التي ينص عليها القانون، فإنه يصبح كيانًا قانونيًا شرعيًا كأي حزب سياسي آخر أو أسرة أو شركة أو دكان أو بيت. فالأحزاب التي تمارس السياسة لا تختلف عن الأسر التي تمنحنا الدفء والسعادة، أو البيوت التي نسكن فيها أو الأعمال التي نرتزق منها.


كلها كيانات قانونية تستمد مشروعيتها في الوجود وحقها في البقاء من القانون وحده. فالوطن ( مصر لا الصحيفة) ليس غير كيان قانوني ضخم يتكون من كيانات قانونية تتباين في حجمها وأهميتها. ونحن لا نشعر بالأمان في رحاب هذا الوطن إلا بالقدر الذي نشعر فيه بالتساوي أمام القانون.


الحزب العلماني ــ أو أي حزب آخر ــ ككيان اعتباري لا يختلف عن الأفراد في ضرورة أن يشعر بالأمان الذي يكفله له القانون العادل، طالما التزم بالقوانين المنظمة لممارسة الحقوق السياسية. إذا لم يدعو الحزب إلى مخالفة أي من القوانين فليس من حق أي سلطة أن تعاقبه، وذلك بغض النظر عن أي أفكار يحملها أعضاء هذا الحزب. كذلك يجب التفرقة بين الشخصية القانونية المستقلة لأي كيان سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي والشخصيات القانونية للأفراد المنتمين له. فنحن لا نعاقب أسرة بأكملها أو شركة بكامل هيئتها لأن بعض الأفراد المنتمين لها قد خالفوا القانون. ولعلنا ننظر إلى العقاب الجماعي نظرتنا إلى موروث ينتمي لحقب الظلم والتخلف.


أنا وأنت نعلم مثلاً أن هناك حزبًا ينضوي تحت لوائه المتطرفون الدينيون، لكن القانون لا يملُك أن يتهم هذا الحزب بالدعوة للتطرف طالما لم يصدر عن الحزب بيان رسميّ يؤكد هذه التهمة. أنا وأنت نعلم أن كثيرين من المنتمين لحزب ما كانوا يعتصمون في رابعة العدوية مع أعضاء الجماعة الإرهابية، لكن القانون هنا لا يملك أن يحاسب الحزب على سلوك أفراد منتمين له. يمكنه فقط محاسبتهم كأفراد إذا ثبُت ارتكابهم لجرائم.


الحزب العلماني، إذا افترضنا أنه يضم بينه ملحدين أو لا دينيين (ناهيك عن أن الإلحاد أو عدم اعتناق أي ديانة لا يشكل جريمة في حد ذاته)، لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن أفكار أعضائه أو توجهاتهم، هو فقط مسؤول عن برنامجه الرسمي وما يعلنه للناس في الوسائل العامة المشهرة. لا يختلف هذا الحزب في هذا عن مؤسسة كبرى قد يعتنق بعض أو أغلب رجالها أفكارًا تبدو للبعض متطرفة وشاذةً وغير إنسانية. فهذه المؤسسة لا يملك أحد أن يوجه لها اتهامًا قانونيًا بالعمل على نشر الرجعية مثلاً. كذلك إذا لم يقم أعضاء الحزب العلماني باستخدام سكين حاد أو منشار كهربائي لفصل الدين عن الدولة قسرًا، وإذا لم يقم بعض منهم (بصفتهم الحزبية) بسرقة المادة الثانية من الدستور التي تنص على مرجعية الشريعة وإخفائها في مكان لا يعلم به أحد، فأظن أنه ليس من العدل توجيه أي تهم لهم. بل أن أي دعوة يطلقها هذا الحزب أو غيره من الأحزاب لتعديل أي مادة دستورية أو استحداث أي قوانين جديدة هي دعوة قانونية يمكن للبرلمان أن يقبلها أو يرفضها، ويمكن للناخبين الموافقة عليها أو رفضها.


ربما آن الآوان أن نُفعّل شعار "الدين لله والوطن للجميع" الذي نتشدق به منذ ما يقرب من قرن، وهو الشعار الذي يمكننا أن نعيد صياغته في ضوء سعينا نحو دولة حديثة ليصبح "الدين للفرد والقانون للجميع".


وفي الختام كل التحية للمدام والأولاد والجيران وزملاء العمل وقبلهم جميعًا الوطن (مصر لا الصحيفة). 
يالها من مفارقة مخجلة!