ماذا تريد الطبقة الوسطى المصرية؟
الإجابة عن السؤال أعلاه معروفة لكل منتمٍ إلى هذه الطبقة.
الطبقة الوسطى تريد الترقّي الاجتماعي. ذلك هدفها الأعلى والأسمى والذي من أجل تحقيقه تبذل كل غالٍ ورخيص. يتجلّى هذا الهدف أكثر ما يتجلّى في الأهمية القصوى التي توليها الطبقة الوسطى لتعليم أبنائها بأفضل ما يستطيعون.
يتجلّى في السعادة الغامرة التي تكتسح وجدانهم - وما يرافقها من مظاهر التباهي والتفاخر المعروفة - عندما “يفلح" أحد الأبناء ويحقق ما لم يستطع غيره في "العيلة" تحقيقه من علّو وظيفي أو مادي أو اجتماعي أو أيٍ من صور النجاح المعتمدة بينهم.
هل هناك مشكلة فيما سبق؟
نعم هناك مشكلة.
دعك من مناقشة مدى مشروعية هذا الهدف في حد ذاته - "الترقي الاجتماعي". لنفترض وفقاً لمعاييرهم أنه هدف مشروع ويستحق كل عنائهم وتضحياتهم (وهو عناء كبير وتضحيات كثيرة بالفعل). سيناقش هذا المقال مدى كفاءتهم في تحقيق الهدف الذي ارتضوه لأنفسهم.
المشكلة أن أفراد الطبقة الوسطى لا يستهدفون النجاح الاجتماعي من حيث هو قيمة مضافة للفرد نفسه، أو إشباعاً أكثر لذاته بما يحقق له هو سعادته الخاصة، أو فائدة لمجتمعه حتّى، أو أيٍ مما قد يندرج تحت بند "الفوائد الصحية للترقي الاجتماعي".
فالهدف الأعلى للطبقة الوسطى له طبيعة مزدوجة: 1- تجنب قيام "الناس" بأكل "وشنا"، و 2- أن نقوم "نحن"عندما نستطيع "بأكل وشّ" من يتيسر لنا من الآخرين.. ويتم ذلك أساسًا عن طريق التنافس الشكلي القاسي في تحقيق عدّة معايير محددة تم الاستقرار عليها كمرجعية عليا لتحديد مَن له الحق الشرعي في أكل وشّ مَن. فالأمر له قواعد منضبطة ولا يسير اعتباطاً (بدءاً من"الجوازة" المثالية للبنت، مروراً بالوظيفة المثالية للولد، وصولاً للسكن في أحياء معينة والتصييف في مواقع ذات تصنيف هرمي واضح، واقتناء ممتلكات مادية محددة تضيف مكانة اجتماعية أكثر من غيرها وفقاً لكود صارم يحفظه جميع أبناء الطبقة عن ظهر قلب).
ببساطة:
الطبقة الوسطى المصرية، الكلاسيكية ابنة دولة الستينات، وبتفرعاتها وتمدداتها الجيلية وصولاً للحاضنة الشرعية لثورتي يناير ثم يونيو (إن شئت تسميتهم بثورات)، لم تكتسب منذ نشأتها وحتى الآن عقلية المدينة/ الحاضرة. مازالت تحيا بلاوعيها في محيط القيم والثقافة الريفية التي تغلغلت في وجدانها أباً عن جد عن جدّة.
نعم نجح التحديث الأداتي instrumental - بمعني أنه تحديث مادي وليس فكرياً - في نقل ملايين ثم ملايين من الريف إلى المدينة. المشكلة ليست بالطبع في انتقال البشر من الريف إلى المدينة. المشكلة أن المدينة ذاتها لم يكن لها جوهر core قادر على الثبات أمام الهجوم القيمي الريفي عليه. انتقل ملايين محملين بثقافة تحتية عميقة تتمركز حول المحافظة الشديدة، كراهية التجديد والشك فيه، الهَوَس بالتراث الشعبي سواء ديني أو بشري، الذكورية الفجّة، الترابط الأسري والعائلي الشكلي والروتيني والذي يتخذ شرعية دينية تحت شعار "صلة الرحم"، احتقار عميق ودفين ومستتر - أو سافر حسب الظروف - للمرأة ذات العقل أو المستقلة أو المختلفة ولو قليلاً، وقل ما شئت عن مجموعة القيم - وكثير منها عظيم وجيد ومفيد في سياقه الريفي - التي تشكل حياة الريف وتميزه ولا يعد أي منها مشكلة من أي نوع عندما تنسجم مع سياقها العام وتتسق مع محيطها المادي الذي خلقت فيه.
المشكلة عندما حدث الانفجار العظيم للطبقة الوسطى بفعل الهجرات المتتابعة والنمو الاقتصادي المديني المستمر (وهي مرحلة طبيعية في تطور المجتمعات وستظل مصر تعاني من آثارها لعدّة أجيال بفرض استمرار الوضع الحالي).
شعُر الملايين المهاجرون على مدار سنوات طويلة باغتراب شديد أمام تعقّد وسرعة نمط حياة المدينة ومنطقها الذاتي. هم أتوا أساساً لتحسين وضعهم الاجتماعي، لذا ظل الترقي الاجتماعي هو الهدف الأعلى لهم يحققونه عن طريق تعليم أبنائهم والتجويد فيه. ولكن في نفس الوقت فإن هناك سقفاً أخلاقياً واجتماعياً وفكرياً قررته لهم القيم الريفية الراسخة في وجدانهم. هذا السقف صنع تناقضاً حاداً بين ما يستوجب فعله لتحقيق الترقي الاجتماعي (وهو أبعد كثيراً من مجرد التعليم) وبين المحاذير والقيود المتعددة التي يعتنقونها اعتناقاً يكاد يكون مقدساً.
لتبسيط الأمر: الترقي الاجتماعي الحقيقي - وليس مجرد الجري في المكان بهدف التفاخر - يستلزم عقلية أكثر انفتاحاً مما تسمح به محاذير الطبقة الوسطى التقليدية في مصر. يستلزم مرونة. تمكيناً أكثر للفتاة والمرأة وتعاملاً معها بأسلوب يختلف عن فكرة "تستير البنات". يستلزم تخلياً عن روتينية ونمطية العلاقات الاجتماعية السائدة في مجتمع الطبقة الوسطى. يستلزم تغييراً ثورياً حاداً في مفاهيم الزواج والطلاق وتربية الأبناء. يستلزم تحرّراً من هيمنة الأب/الأخ/الذكر أياً من كان على الأسرة فقط بفضل جنسه وكونه راعياً مسئول عن رعيته. يستلزم أحياناً سفراً واغتراباً وتطورّاً في المشاعر عن مستوى مشاعر التقارب والتلاصق الجسدي الأوليّة. يستلزم جرأة وتجرؤاً وابتعاداً عن منطق “المشي جنب الحيط” وقرباً من منطق "المشي وسط الشارع". يستلزم تجارباً وأخطاءً لا يتم اعتبارها أخطاء وإنما تعلماً يخص الشخص ذاته ولا يخص غيره. يستلزم رفع وصاية "الأكبر سناً" إلي وصاية "الأكثر طموحاً". يستلزم الاعتراف بشرعية "ذاتية الفرد" بما يصحبها من مخاطرة وخروج من منطقة الأمان وهجراناً لشرعية "هذا ما ألفينا عليه أباءنا". يستلزم اعترافاً بأن ما ينطبق على فلان لا ينطبق على علان وأنه ليس هناك مسطرة موحدة يجب أن ينتظم ويصطف الجميع بمحاذاة السنتيمترات المكونة لها. يستلزم يقينا بـ "حلاوة الحياة الدنيا" التي بين أيدينا وعدم يقين في الحكمة التقليدية Conventional Wisdom التي توارثتها العائلة عن الجدّات البسيطات (العظيمات ذات كل القدر والقيمة ولكن المشكلة في فرض قيم زمانهن على زمان آخر لا يفهمنه ولا يستوعبنه).
يمتلئ الوجدان الجمعي للآباء المؤسسين للطبقة الوسطى بتقاليد وقيم وحِكَم ريفية لا تشبعها سوى صور ذهنية يسيطر عليها الأب القوي ذو الشكيمة، نموذج جمال عبد الناصر وروافده أو حسن البنا وسيد قطب وروافدهما. بالتقاليد الدينية الشعبية بغض النظر عن علاقتها الحقيقية بالدين أو فلسفته. بتعاليم الشيخ الشعراوي التي تطمئنهم وتهدئ من روعهم المذعور دائماً وتعطيهم شعوراً بالأفضلية الأخلاقية (والعلمية أحياناً). بمواعظ عمرو خالد ومصطفى حسني الخاوية للأجيال الأحدث التي تستهدف إحدَى الحسنيين: بعض الحرية، ولكن تحت سقف ذات التقاليد كيلا يتم تصنيفهم أو تصنيفهن كمتمردين أو متمردات فلا يحظون باحترام ومباركة الآباء - والأمهات والجدات - المؤسسين والمؤسسات.
الطبقة الوسطى المصرية تريد المستحيل من خلال أبنائهم: تريدهم أن يترقوا اجتماعياً ومادياً دون دفع الثمن اللازم لذلك. تريد لهم الشكل دون المضمون. تريد لهم الاقتناع بمبتغى الحكمة السياسية والأخلاقية الصادرة من أفواههم دون تحويل ذلك لفعل سياسي أو اجتماعي (تذكر الصراع الجيلي الحاد الذي نشب أيام يناير بين الآباء والأبناء، أو الصراع الحاد الناشئ بعد يونيو بين نفس الجيلين عند تمرّد جيل الأبناء على الهيمنة الأيديولوجية لقيم لإسلام السياسي ومعظمها قيم ثقافية وليست سياسية). تريد لهم الحياة الآمنة المطمئنة ولو كانت راكدة وفق معايير الزواج التقليدية - والارتباط والانفصال عموماً - وفق ما تعارف عليه جيل الأباء والجدود دون فهم اختلاف وتعقّد وثراء العلاقات الاجتماعية بين الجيل الأحدث. تريد للبنات منهن أن يتعلمن ويعملن ويبزغن دون تخطّي أي من حواجز "النسوة" السابقات بما في ذلك وعلى رأس ذلك “حق تقرير مصيرهن كما يتمنيّن!".
تريد الطبقة الوسطى المصرية - باختصار - تحت شعارات الحب والخوف ونشدان الأمان (الذي لا يصل إليه أحد أبداً لأنه ببساطة ليس له وجود إلا في الذهنيات الخائفة المذعورة من الحياة) - توقيف الزمان عند لحظتهم التاريخية البائسة لتستمر عجلة التباهي والتفاخر الجوفاء في الدوران إلى ما لا نهاية وبما يحقق - في الواقع - هذا الشعور المرضي بالأمان الزائف لهم هو وحدهم دون سواهم.. وبما يمكنهم من الاستمرار المقدس فيما لم يعرفوا غيره: تجنب أكل الناس لوشنا، أو قيامنا نحن بأكل وش الناس.. وتلك هي الجائزة الكبرى لمن استطاع إليها سبيلاً.