التوقيت الأحد، 22 ديسمبر 2024
التوقيت 11:44 م , بتوقيت القاهرة

ولو حكم بغير الحق

كان النبي ? ينظر لحفيده الحسن، "ويقول إن ابني هذا سيد، يُصلح الله به بين فئتين من المسلمين".  فكان معيار السيادة التي وضعها النبي في البشر هي الصلح وتجنب الفتن ورفع الاختلاف، وتقديم التنازلات الشخصية من أجل الصالح العام.


بعد موت الإمام علي، اجتمع الناس وبايعوا الإمام الحسن، خامس الخلفاء، واستمر معاوية ينازعه الأمر، ويرفض الاعتراف بالبيعة التي قدمها الناس، فما كان من الحسن بعد أن رأى ويلات الحروب ونار الاختلاف التي قتلت آلاف الرجال والصحب، إلا أن ذهب لمعاوية وتنازل له عن الحُكم، وسُمي هذا العام بعام الجماعة. رغم أن التاريخ يُخبرنا أن الحسن كان معه جيش ضخم يسير في الصحراء كقمم الجبال، ما أرهب معاوية، لكنّه استخدم القوة في التنازل وعصمة الدم بدلا من الحرب والانتقام وانتزاع ما يراه حقا مؤكدا.


ولم يسلم الحسن من الأذى، فكان كلما مر على نفر من قومه سبّوه وأغلظوا له، بل قيل إنهم اعتدوا على بيته ونازعوه على فراشٍ كان يجلس عليه. فالمتطرفون والدميون لا يرضون بديلا للحرب. ولا يرضون بحكم أحد ولو كان سِبْط رسول الله. وبذلك يكون ترك القتال/ الجهاد، ولو كان لقضية عادلة، هو الأولى طالما يؤدي إلى خير.. فما فائدة الحق الذي يجلب الموت للناس والخراب للدنيا. ما فائدة الحق لو لم يجد قلوبا آمنة وبيوتا عامرة!


ومنها استخلص الفقهاء أنه يجوز للحاكم أن يخلع نفسه لو كان في ذلك حقنا للدماء.. ومنها جواز ولاية المفضول في ظل وجود الأفضل. أي ولاية الأقل تقوى وورعا لو كان في ذلك مصلحة عامة.


لو فكر الإمام الحسن بشكل نظري، لوجد نفسه على حق، ومعه موافقة المسلمين، ونسبه الشريف يحمله على ذلك، لكنّه وازن بين إنفاذ الصواب الذي قد يشعل حربا جديدة يموت لها آلاف القتلى، وبين توازن المصلحة التي تعصم الدم. والرسول ? شدد على ذلك في نهاية حياته وفي خطبته الشهيرة التي ودع بها المسلمين، فقال "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" لم يقل كفارا تتركون العبادة، بل كفارا تهدرون دماءكم. فكأن الكفر بحياة الإنسان أو الاستخفاف بها كفرا بالله.  


لذلك قال فقهاء المالكية، إن على القاضي إذا اشتعلت الفتنة بين الناس أن يقضي على أسباب الخلاف ولو قضى بغير الحق.. فدفع الفتنة وتحقيق السلم أولى من الحكم بالحق. 


هكذا فعل النبي في صلح الحديبية، وهو صلح ينص على وقف القتال لعشر سنين بين المسلمين وقريش. 


وعندما بدأ النبي الوثيقة بـ بسم الله الرحمن الرحيم.. قالت قريش لا نعرف الرحمن الرحيم. فمحاها النبي. وعندما كتب في مشارطته، هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله. قالوا لا نعرفك رسول الله. اكتب اسمك واسم أبيك. فمحاها النبي إرضاء لهم. وهو هنا يتنازل عن صفة من صفات الله "الرحمن الرحيم" ويتنازل عن صفة النبوة عن نفسه تعظيما لقضية الصلح.  ثم أقر على نفسه أن يرد إلى قريش كل من يأتيه مسلما منهم، فيمنع دخول الإسلام من قريش عشر سنين..! فالرسول قبل بشرط منع دخول الإسلام لو أدى ذلك إلى وقف القتال ونشر السلم بين الناس.. لأنه يعلم أنه على المدى البعيد، من يرد دينا بعينه سيتبعه بأي طريق حتى لو خالف الناس. طالما كانوا في مجتمع آمن. وهو ما أشعل غضب الصحابة وأثار المسلمين ضده حتى أنهم كادوا أن يعصوه في الأمر.


ولو عاش أحد من مشايخ المسلمين اليوم لما استطاع أن يقدم تنازلا مثل هذا في نقاشه مع المشركين، ولتوقف أمام كل كلمة وأمام كل شرط حتى يحولها حربا جديدة. ولربما اتهم الرسول أنه عدو الله ورسوله!!


ونزلت الآيات من الله في القرآن الكريم، في مطلع سورة الفتح تصف المشهد (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ..  وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا). فكان الفتح المبين، وفق آيات القرآن، والنعمة والنصر والعزة من الله معاصرين للتصالح ووقف القتال.


في الفتنة الكبرى التي اشتعلت بين الإمام علي، ومعاوية بن أبي سفيان، تحكي كتب التاريخ عن بعض المراسلات بين الطرفين، وفيها أن معاوية يرى نفسه ندا لعلي، وأنه لن يقر له بالرئاسة، ولن يتنازل عن حقه في الإمارة، وقدم عرضا لعلي لوقف القتال، وهو أن يتركه حاكما على الشام حكما مستقلا، بينما الإمام علي حاكما على العراق والحجاز.


وكان معاوية أميرا على الشام مدة عشرين سنة، فاستقر له الحكم وألفه الناس، وانفصلوا معنويا عن مركزية الخلافة في المدينة وبغداد. وكان هذا الحل بدايات فكرة حق تقرير المصير الذي تقره المجتمعات الحديثة لبعض الدول التي ترغب في الانفصال، ويكون ذلك تجنبا للحرب الأهلية.


الإمام علي كان يرى نفسه على حق، والناس من حوله بايعوه على الإمارة، وكان الأكثر تقوى وورعا وكفاءة، لكن منذ متى والحياة تسير بالحق المطلق فقط..! فعقد التوازنات بين إنزال الحق دون حدوث ضرر كبير، وتحقيق مصلحة الناس وتقليل الخسائر قدر المستطاع، هو الذي يميز فقه الواقع.


القاعدة الأصولية تقول إنه لا يجب إزالة الضرر بضرر أكبر. أي أننا قد نرضى بضرر أقل في سبيل تلافي ضرر أكبر متحقق. والسياسة كما شرحها الماوردي وابن خلدون، هي كل ما يكون الناس معه أقرب للصلاح في أمور المعاش والمعاد. والحرب قطعا لا تحقق مصلحة للناس في الدين أو الدنيا.


كانت فتنة، ولم يكن ينقص المسلمين شيءٌ من علوم الدين، لكن فاتهم الكثير من علوم الدنيا ودروب السياسة، ولو أقر الإمام علي القاعدة، لعصم دماء الآلاف ولاستمر الإسلام عنوانا لدولة كبيرة وقوية في العراق ودولة أخرى في الشام، بينهما التعاون في البر والتدافع ضد العدوان. وكان إرهاصا لنشأة الدولة القومية التي لم يعرفها المجتمع الحديث إلا في وقت متأخر من القرن الـ 19. ولكان الإسلام هو أول كونفدرالية عالمية تجمع دولا متنوعة الأعراق والثقافات. ولكن هلك الناس بتقوى علي وجشع معاوية.