الخال.. واللعب مع الصغار
ربما كان من أسوأ نتائج تجربة يناير 2011 هو ترسيخ فكرة وجوب إزاحة الكبار والاستخفاف بقدرهم، والربط بين كبر السِن وتداعي القيمة، كذا اعتبار التقدم فى السن مسبة موجبة للاحتقار والاستهانة، والإحالة إلى الاستيداع الإنساني والفكري، بالإضافة لإسقاط عظمة لا مبرر ولا وجود واقعي لها على حديثي الأعمار، وأيضا الخلط بين التقييم التاريخي الممتد وبين التجربة السياسية الآنية.. ويغلب الظن أن سبب شيوع تلك الرؤية، هو تقدم صغار السن والشباب واجهة الحراك الثوري، وسط مديح إعلامي ممتد ومكثف لم يسبقهم إليه أحد قبلها.
تعددت حالات موت الكبار، وتعددت لعنات المشيعين من فئات شبابية بمواقع التواصل الاجتماعي، امتازوا باستخفافهم بالوفيات المتعاقبة وبأصحابها، كما استخفوا بمقدرات الأحياء من قبل.
وآخر الراحلين كان الشاعر عبد الرحمن الأبنودي.. مواقف الأبنودى السياسية منذ 25 يناير وحتى تأييده الرئيس السيسي مرورا بثلاثين يونيو، جميعها فتحت عليه أبواب النقد والتجريح، من وسط سياسي ملغم بالمراهقين، متشبع بثقافة الألتراس، تسوده مواقف سياسية تفتقد النضوج، تتسارع كي تتحول لإفيهات كوميدية مصورة، تتناقلها حسابات التواصل الاجتماعي.
وفي ظني أن أزمة الكبار في سنوات الأزمة، كان منبعها التصديق، تصديق أنه: لا يجتمع شعبنا على ضلالة.. فكيف لشعب أن يخطئ بالإجماع؟! فضلا عن التساؤل: كيف لحراك ضخم كأحداث 25 يناير، ألا يكون تجليا تاريخيا، وهو يحتوي في جوفه كل هذه الجماهير؟!
لا شك أن مراجعة النفس وتعدد محاولات الفهم والتثبت من صحة قرار ما، هي من سمات أصحاب العقل، ولا بد أنها راودت الكثيرين خصوصا من الناضجين، وممن ارتأوا أن البلاد فيما أعقب يناير 2011 تسير في طريق ليست فى نهايته ولا على جوانبه بشائر الخير!
ولكن الكبار لم يلحظوا تغير الأجيال بما يكفي، وغلبت آمالهم تشاؤمَهم. ولم يلحظوا أدوات نضجهم الأسطورية، فجيل شكَّل منه الإنترنت طفرة بشرية، لا يمكن اعتباره جيلا نمطيا، تنتظر منه تقديرا أو عرفانا لمن بدأوا طريقهم من اللمبة الجاز. هو جيل يملأ لحظاته بالسخرية أكثر من التدبر، جيل يفتقد للحظات التأمل، يأتيه الملل من صغائر الأمور، جيل نال تقديرات مضللة بعلامة "اللايك". لم يدرك الكبار أنهم يخاطبون جيلا لا عزيز لديه، لا يهتم كثيرا بما بنوه ولا بما أرسوه، ولا ثوابتهم هى بالضرورة ثوابت هذا الجيل، لكن اللعب مع الصغار له مقتضياته، فليس قرار دخول المعركة كقرار الخروج منها.
وطائفة مؤثرة من هذا الجيل معركته لحظية، لا يعنيه التاريخ ولا الحسابات الحساسة، ولا أولويات الأمن القومي وربما لا يعنيه الوطن ذاته، فمعركته أقرب لمعارك الألتراس، قد يعتدون على مشجعي الفريق المنافس، ثم يضربون لاعبي المنافس، ثم يحطمون ملاعب ومرافق الفرق المنافسة، فإذا انتهوا استداروا لفرقهم فأنبوا إدارات ناديهم الذين يهتفون باسمه على قرار لا يرضيهم، بضم لاعب أو استبعاد آخر، ثم يهاجمون مقرات النادي نفسه، ثم يضربون لاعبي فريقهم إذا اقتضى الأمر، ولا مانع من تحطيم سياراتهم لأنهم خرجوا عن أوامرهم العليا.
في النهاية لن تجد مقدسا أو هدفا ساميا لديهم، إلا رابطة دعم بدائية تربط عناصرهم بعضهم ببعض فقط لا غير، والكيان الأسمى هو الاسم الذي يلضم أعضائهم ضمن عقد يحقق لهم التواجد الفعال.
كانت هناك ملاحظة لصديق، أنه حينما أنشئ مترو أنفاق القاهرة الكبرى، روعي أن تكون محطاته بانوراما تجمع أسماء رؤساء وزعماء مصر الوطنيين، ولكن بمجرد إزاحة مبارك عن السلطة، كان الإصرار شديدا على محو اسمه من المؤسسات والمنشآت، ربما يكون الأمر منطقيا لو نفذ ذلك على مدارس عديدة تحمل اسمه أو اسم زوجته، فالانتشار هنا سياسي بالدرجة الأولى، أما أن يُنزع اسمه من وسط باقي رؤساء الجمهورية، فهي عملية اقتطاع تاريخية مشوِّهة من وسط بانوراما متكاملة.. تسابق الصغار على طمس التاريخ بأيديهم..
والفارق بين التاريخ والسياسة كبير.. السياسة متغيرة تتبدل مساراتها، بينما التاريخ لا يسعى لمحوه سوى أحمق.
ظن الكثيرون أنهم بمنأى عن هذه المقصلة الرعناء، لكن ها هم الكبار يرحلون، ويُمحى تاريخهم، لحساب موقف سياسي لم يرضِ البعض. وتشييع جثامينهم بلعنات المراهقين بتغريدات تافهة تنقلها مواقع التواصل، وآخرهم الأبنودي، الذي غنت الجموع بشعره وصاغوا شعارات ثورية أصبحت عناوين لمرحلة ملأت جدران الميادين، وغطت أحبارها اليافطات، ثم انقلب هؤلاء عليه، حينما دقق بوصلته لما ارتآه مصلحة لوطنه.
محوا للأبنودي ما غرسه فى وجدان المصريين من كلمات وأشعار وأغانٍ، وثقافة جنوبية راسخة، محوا رحلته الشاقة المتفردة فى جمع السيرة الهلالية، التي خلدها بمتحف فى بلدته أبنود بقنا.
فلا أعتقد بوجود مصري لم يدندن كلماته وأغنياته، الوطنية أو العاطفية منها، ولا أعتقد بوجود من لم تشكل كلمات الأبنودي جزءًا من عاطفته النابتة، لكن النظرة السياسية المقتصرة على اللحظة دون الامتداد، وطمس التاريخ بممحاة السياسة، جعلت أصحاب ثقافة الألتراس يودعون الشاعر باللعنات، كأي لاعب غادر فريقهم، واحترف بفريق منافس.
ربما جانب الأبنودي دقة التقدير كغيره من الكبار، ممن كانت الأحداث قاسية عليهم، وأسرع من طبيعة أعمارهم على مجاراة المتغيرات الآتية فى التو واللحظة عبر الميديا والإنترنت. أحداث متلاحقة تطلب من المتابع سرعة تغيير موقفه أو بناء موقف جديد فوري، طبقا للمتغيرات المستجدة كل ساعة.. هذه أمور يصعب أن تحدد دقتها بوصلة الكبار فى خريفهم.
لكن يغفر للكبار أن اختيارهم وإن جانبه الصواب أحيانا هنا أو هناك، كان دائما وراءه الوطن قبل أي اعتبار آخر، وأن سرعان ما عدّل المخلصون موقفهم مع أقرب موقف كاشف، وعادوا سريعا إلى مقامهم.. أعتقد أن من ضمن هؤلاء الأبنودي، الذي كانت آخر كلماته على فراش موته: أن وطننا سيبقى ما بقي جيشه، وطلب من الجيش أن يضع كلمة النهاية لسيرته بإقامة سرادق عزائه.
رحل الأبنودي، ولم يدرك أن بشراه برحيل العواجيز، قد تطاله يوما على ألسنة بعض الصغار.. رحم الله الخال، وجعل تقدير الكبار خُلقا راسخا فينا.. كبار القيمة.