التوقيت الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024
التوقيت 12:04 ص , بتوقيت القاهرة

السرية التامة

لا أعرف على وجه الدقة من هو صاحب فكرة نشر حركة تنقلات الشرطة بكل تفاصيلها الدقيقة في الصحف اليومية، لكن ما أنا متيقن منه تماما، أن أمرا كهذا لم يعد ينطوي على وجاهة وشهرة خادعة، في ظل ظروف عصيبة يمر بها جهازنا الأمني، من مواجهات مع مجرمين وإرهابيين لا أخلاق ولا عهد لهم، وشهداء من رجال الشرطة يسقطون كل يوم في سبيل هذا الوطن.


تطالعنا المواقع بتفاصيل التفاصيل، ومعلومات لا تمثل أهمية لدى المواطن العادي، عن تعيين العميد محمد محمد مثلا مأمورًا لمركز كذا بمحافظة كذا. ما الأهمية الأمنية لنشر أسماء وصور أناس يواجهون الموت كل لحظة، ويحاربون عدواً خسيسًا يستهدفهم في أرواحهم وممتلكاتهم؟ لماذا الإصرار على تقديم خدمة معلوماتية مجانية للإرهابيين، بإثراء قاعدة بياناتهم وتحديثها بنشرة ترقيات وتنقلات الضباط ومواقع عملهم الجديدة، كي يصبح استهدافهم وتصفية الحسابات معهم أسهل.


الإعلان عن خريطة توزيع رجال الشرطة في الصحف مع كل حركة تنقلات أو ترقيات جديدة يمثل نوعًا من غياب الاحترافية في العمل الأمني، الذي يفترض قدرًا من عدم الإفصاح للعامة عن أسماء وطبيعة أدوار رجال الشرطة المنقولين إلى أماكن بعينها، والإبقاء على ذلك داخل الدائرة الصغيرة للأمن والجهات المتداخلة وظيفيًا معه كالقضاء.


تطالع صفحات الجرائد بعد إعلان حركة تنقلات الشرطة، لتجد في نفس الصفحة خبرًا جانبيًا مع صورة لأحد القيادات الشرطية مع خبر نقله للعمل كمدير لأمن منطقة ما، أو مسؤولًا عن إدارة ما. بصرف النظر عن النرجسية الزائدة وحب الظهور الإعلامي، فإنّ الظرف الحالي لا يحتمل تقديم هدايا معلوماتية على طبق من ذهب للعصابات الإجرامية المنظمة وجماعات الإرهاب المتأسلم، سيكون ثمن ذلك حتمًا دماءً غالية وأرواحا غالية من رجال الشرطة عن طريق الاستهداف الخسيس لهم ولأسرهم من قِبَل تلك العصابات، التي أصبحت أكثر ضراوة بعد انتشار السلاح في أيديها وحالة الانفلات التي أعقبت احتجاجات يناير 2010، وهي الحالة التي جعلت الجريمة المنظمة وعمليات الخطف أكثر ربحية وظل غياب سيف القانون وغياب الصرامة والحسم الأمني، وهو الأمر الذي ألقى بظلال من الشك على قدرة الدولة على استعادة هيبتها أو بالأحرى هيبة القانون.


في أحد مشاهد أفلام الفنان أحمد حلمي، يقوم رجل الأعمال بإبلاغ الشرطة باختطاف ابنته، ويحرر محضرًا بذلك، فيوصيه الضابط بالسرية التامة حتى يستطيعوا الوصول للخاطفين، ويكرر الضابط عبارة "السرية التامة"، وما أن ينصرف رجل الأعمال إلا ويدخل مصور صحفي لتلقف ما يعطيه له الضابط من أخبار تتسم "بالسرية التامة"، وبالطبع سينشر اسم الضابط مع الخبر مع مزيد من التحبيشات الصحفية. رغم طرافة وكوميدية المشهد، إلا أنه يعكس حالة من حالات عدم المهنية والاستسلام للنرجسية والرغبة في الظهور، التي تحدث في الواقع الفعلي وليس في السينما فقط.


كم من قضايا أفسدها التعجل الإعلامي، والرغبة في تصدر المشهد بهدف الشهرة الزائفة، وكم من شهيد سقط بسبب معلومات مجانية نقدمها طواعية ومجانًا للإرهابيين والمجرمين، عن تحركات وانتقالات رجال الشرطة. ليكن الإعلان عن تنقلات الشرطة عملا مهنيًا لا يتجاوز جدران وزارة الداخلية، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة من عمر الوطن، حيث تتكالب قوى الشر على مصر بالداخل والخارج، وحيث توحش الإرهاب، وأعمل الاستهداف الخسيس في رجال الأمن المصري بهدف كسره، لتكون تلك هي البداية لإنفراد قوى الشر والجريمة المنظمة بالمواطن الأعزل، وإشاعة الفوضي وعدم الأمن في المجتمع، ليفقد المواطن ثقته في هيبة القانون بسيفه الناجز.


جهاز الأمن في أي مجتمع هو ذراعه النافذ لبسط الأمان، وتحقيق العدل وإنفاذ القانون بمساواة على الجميع. الحفاظ على رجال الأمن جزء من الحفاظ علي السلام الاجتماعي، ولهذا لا ينبغي أن تكون المعلومات الأمنية متاحة بشكل دعائي فج علي الوسائط الإعلامية حرصا علي عدم سقوط شهداء جدد من أبناء الوطن. ينبغي أن يتحلي جهازنا الأمني هذه المرة " بالسرية التامة " قبل أن يطالب الآخرين بالتحلي بها، فالوطن لا يحتمل غياب الإحترافية خاصة في العمل الأمني.