التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 07:31 م , بتوقيت القاهرة

زواج الصغيرة

الدارس لمناهج الفقهاء القدامى في الاستنباط، يجد أنهم يضعون مساحة بين النص الديني، قرآن وسنة، وبين الحكم الفقهي المستخلص منهما. وهذه المسافة تتدخل فيها الكثير من الأشياء، منها دلالات اللغة، هل فعل الأمر مثلا ينصرف للوجوب أم الاستحباب أم التخيير.


الله يقول في القرآن (كلوا واشربوا) فهل فعل الأمر في كلوا، يقضي بالوجوب، أم الاستحباب أم التخيير..! غالب القول إنه للتخير أو الاستحباب ولكنّه قطعا ليس للوجوب، فمن حق الإنسان أن يمتنع عن الطعام بعض الوقت إن شاء.


وتتدخل أيضا مسائل أخرى مثل العرف السائد في بلد بعينها، وطريقة فهم البشر للحياة، فالعلوم الدينية هي علوم إنسانية، تتأثر بالثقافة العامة ومستوى التحضر الإنساني والبيئة المحيطة من سلم وحرب أو حتى بظروف المناخ وظروف الطبيعة.


وهناك قواعد أخرى أصولية تتحكم في استنباط الحكم الفقهي من النص، وهي كما ذكرنا تقع في المسافة الفاصلة بين النص والحكم المستخلص منه، منها مثلا أن "الضرر يزال" وأن "العرف محكم" وأن "درأ المفسدة مقدم على جلب المصلحة" وأن "المشقة تجلب التيسير" وأن "حال التعارض بين العقل والنص يؤخذ بالعقل ويؤول النص".


ولو عدنا إلى قضية الزواج من بابها، نجد أن الزواج في غالب القول ليس فريضة دينية، بل يقع في دائرة المباح. فلا يكتنفه حكم التحليل والتحريم أو الكراهة والاستحباب. وهناك من الفقهاء الكبار من لم يتزوج، مثل الشافعي، ومن أنبياء الله، مثل سيدنا يحيى. ويصير الزواج فرض في حالة لو أن امتناعه يؤدي إلى مفسدة كبرى. ويصير الزواج حراما لو كان يؤدي إلى ضرر لأحد أطرافه. ويظل مباحا في الأصل العام بعيدا عن هاتين الحالتين.


المشكلة التي عقدها البعض حول تلك المسألة كانت حول آية (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ).


والآية واردة –ابتداءً- في سورة الطلاق، فهي لا تُشرع للزواج، بل للانفصال، وتتحدث عن عِدة المطلقة كإجراء نهائي للتفريق بين طرفين، والأصل العام للعدة ثلاث حيضات، ولكن الله وضع حالة أن هناك فتاة لا تحيض فعدتها ثلاثة شهور.. ومن هنا بدأت الأزمة. فلدينا في كتب التفاسير من قام باستنباط حكم من الآية، أنه طالما هذه المطلقة لم تحض، فهي قد تزوجت صغيرة قبل سن البلوغ، وعليه فالقرآن يجيز زواج الصغيرة.!


رغم أن الآية لم تتعرض لعملية الزواج السابق، بل هي تشرع للطلاق، حتى لو تم الزواج بأي صورة، فنحن هنا أمام حالة طلاق نريد إنهاءها ووضع تشريعات لها. فأنت لو وجدت حريقا فستسارع لإطفائه دون أن تنتظر لتسأل عن المتسبب في بداية الشعلة، وهل كان مخطئا أم محقا.


والقانون يعرف أن العقد الباطل أو القابل للإبطال قد يرتب بعض الآثار القانونية التي تستمر بعد زواله.


ولو نظرنا للفقهاء القدامى في استنباطهم المتطرف من الآية، بعيون عصرنا الحالي، وما درجنا عليه من تنشئة وتعليم وتغير كبير في نمط الحياة، قد نلقي عليهم سهام غضبنا وحُنقنا ونتهمهم بالانحراف والعبث. ولكن لو تريثنا قليلا وعدنا إليهم نجلس إلى جوارهم، نعيش في عصرهم، ونرى بعيونهم ونُحَكّم القواعد الفقهية والقانونية التي وضعوها لاستنباط الأحكام ربما صار الأمر مختلفا.


وقبل أن نعود لعصرهم، دعونا ننظر إلى الماضي القريب. في بيت كل واحد فينا لو سأل جدته أو عمته الكبرى، عن سن زواجها غالبا سيجد أنها تزوّجت دون الخامسة عشرة. وبعضهن تزوجن في سن 12 سنة. وكان ذلك أمرا عاديا لا يستثير سخط أحد ولا يُحدث مشاكل ولا أضرار. بل كانت من تبلغ سن 16 أو 17 سنة دون أن يتقدم أحد إلى خطبتها يُعدُّ ذلك طعنا في جمالها وكفاءتها ويُحدث قلقلا لدى أمها.


عمتي التي تعيش في بلدتنا الصغيرة تزوّجت قبل أن تبلغ 12 سنة. فهل كان جدي رجلا متسلطا يُفرّط في بناته..! لا أظن. فهو كان رجلا صالحا رشيدا وتاجرا ناجحا وأبا رفيقا بعياله. بل في عصر الفراعنة، كان متوسط عمر الإنسان 25 سنة، فهو يعيش ويتزوج وينجب ويشيخ قبل أن يبلغ الشباب، ومن الطبيعي أن يصير أبا وهو ما زال طفلا!


الآن، وفي وقت قليل من الزمن، تغيّرت الأعراف، وكذلك الظروف الصحية والبدنية، ومتوسط أعمار البشر، ولو تقدم شاب لفتاة تدرس في الجامعة في الماجستير وسنها تجاوز الـ 26 سنة، قد تطلب من أبيها التريث لحين إتمام رسالتها، ويصير أمرا عاديا. والفقهاء القدامى قبل أن يستنبطوا هذا الحكم -الذي أراه منحرفا- وضعوا نصب أعينهم قاعدة "الضرر يزال" و"العرف محكم" و "درء المفسدة"، ولم يروا في ذلك أنه يناقض العرف أو يجلب مفسدة أو يؤدي إلى ضرر.. ولم تشتكِ نساء العصر من ذلك. 


الآن لو عدنا للنص، ووضعنا آليات الاستنباط التي لجأوا لها، فمن المستحيل أن نخلص لذات النتيجة، بل سنجد أن حكمهم هذا في زواج الصغيرة سيؤدي إلى حدوث ضرر وجلب مفسدة، وأنه يخالف العرف العام. وبذلك يصير استنباطا باطلا.. وتكون آية ((وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) منصرفة لأي امرأة ناضجة ولكن لديها مشكلة في انتظام الدورة الشهرية، وتريد الحصول على الطلاق، فلا تكون العدة بعدد الحيضات بل بحساب الشهور. وتنتهي المشكلة.. فلا يُصرّ الشيخ الأزهري على الدفاع عن أحكام تاريخية فاسدة ومتخلفة. ولا يفتعل السيد المستنير زوبعة حول قضية تافهة.


ولو عدنا للقرآن في موضع الزواج نجده يتحدث بشكل مختلف (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى? حَتَّى? إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ...) النساء: 6. فالله يضع ترابطا بين بلوغ سن النكاح، وبين استئناس الرشد العقلي الذي يعطي لصاحبه الأهلية القانونية في تسلم أمواله والتصرف فيها.


ولو اختلفنا على سن السيدة عائشة في نقاش أحمق آخر، فلدينا نموذج آخر أهم وأثبت، ولا خلاف عليه، وهو تزويج النبي (ص) لابنته فاطمة، من الإمام علي، حيث زوجها وهي تقترب من سن العشرين. ففاطمة ولدت قبل بعثة النبي بخمس سنين، ثم قضت مع أبيها 13 سنة في مكة، أي بلغت 18 سنة، ولم يتزوجها الإمام علي إلا بعد الهجرة في المدينة.


كان النبي محمد يحب أكل "الكوسة" فهل يصير أكل الكوسة سُّنة..! ولم يثبُت أنه أكل السمك أو البطيخ، فهل يصيرا حراما..!


مرة أخيرة، أحكام التاريخ كانت خاضعة للعرف الخاص بهم، ولم تكن تؤدي إلى ضرر أو فساد اجتماعي، فهي منطوية عليهم، تغير الأمر وصارت تؤدي إلى ضرر وفساد، فتصبح حراما لنا. ويجب أن نخرج من تلك الازدواجية سريعا. ادعاء التنوير الزائف، أو التمسك بالتراث الفاسد.


فلدينا في واقعنا مئات المشاكل أهم من ذلك، من ترهل إداري وفساد تعليمي، وانهيار صحي، وطرق خربانة وعمارات تسقط. و 80% من قرى مصر بلا صرف صحي. وانحراف الضمير العام.