التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 07:31 م , بتوقيت القاهرة

منهج التطوير للقضاء على التطوير

في كتابه الهام "مستقبل الثقافة في مصر"، وهو عبارة عن عدة مقالات مجمعة (1935)، ناقش عميد الأدب العربي "د. طه حسين" أهم المشكلات التي تتعلق بمستوى التعليم والثقافة في مصر.. وأكد على أهمية تحرير التعليم من مفهوم "التلقين" من خلال رفضه توزيع كتب معينة على الطلاب في المراحل التعليمية المختلفة، وأوحى بضرورة ترك الحرية للطالب في قراءة واستيعاب من كتب تقرر الوزارة بأنها صالحة فقط .. وليس بأنها الأصلح فالتعليم غير المباشر هو القادر وحده على تطوير التعليم والتقدم والنمو الفكري والعقلي للطالب ومساعدته على الخلق والابتكار.. وينمي فيه ملكة البحث والرغبة في المعرفة والاطلاع واستخلاص النتائج.


من المنطلق السابق يمكننا ببساطة أن نرصد أهمية إحداث طفرة في المناهج الدراسية، التي لا تتناسب بأي درجة من الدرجات مع مسيرة تطور البشرية، حيث إنه للأسف الشديد لم ينتبه أحد ولم يسع مسؤول منذ صيحة "طه حسين" في ثلاثينيات القرن الماضي إلى هذا التطوير.. بل الحال سار من سيئ إلى أسوأ.. عبر عنه الناقد "شعبان يوسف" في مقال له قال فيه.. "لو تخيلنا أن العميد الدكتور "طه حسين" استيقظ من موته في هذه الآونة وانتبه إلى ما يحدث في التعليم.. وتصفح بعض ما تقرره اللجنة الموقرة على طلاب المدارس لطلب أن يعود إلى مقره مرة أخرى وندم على كتابة كتابه "مستقبل الثقافة في مصر الذي قدمه لوزارة المعارف في عام 1937 ليكون منهاجاً لمستقبل التعليم.. وفحوى ندمه أنه أجهد نفسه وأبرز جميع ما تتطلبه العملية التعليمية من طاقات ولكن لا حياة لمن تنادي.. وكأنه أطلق صرخته في جماد أو في واد فلم يستمع أحد، ولم تعتبر الأجيال التي تلته أن ما كتبه له علاقة بأي مستقبل.


وتأييداً لما قاله الناقد فإن "الجمود" هو العنوان المناسب الذي يُمكن أن نطلقه على شكل المناهج التي تخلفت تخلفاً بيناً عن العصر فما زال مثلاً أطفال جيل الكمبيوتر والإنترنت يدرسون "البساط السحري" و"مصباح علاء الدين" و "الأرنب كوكي" الذي ركبه الغرور فرفض اللعب مع أخوته "موني و سوني"، بينما الأطفال في المدارس الأجنبية الذين يماثلونهم في العمر يدرسون مسرحيات شكسبير باللغة الإنجليزية.


وقد كانت لي تجربة منذ سنوات ليست بالقليلة من خلال فيلم تلفزيوني هو "محاكمة علي بابا" الذي كتبت له السيناريو والحوار، وناقشت من خلاله رفض طالب حفظ أشعار "البحتري" و"أبو تمام" اللذان ينافقان الحكام بالمديح إذا أجزلوا لهما العطاء.. وينقلبا شاتمين يهجونهم هجاء قاسياً إذا ما كفوا أيديهم عنهما.


وقد عُقد بعد عرض الفليم مؤتمر عاماً لمناقشة المناهج وتطويرها.. لكنه للأسف لم يسفر عن شئ على الإطلاق،


أما الاستجابة الوحيدة التي تمت في الفترة الأخيرة من اللغط المثار حول المناهج واكتشاف الكثير من الآراء أو الأحداث المتطرفة بها .. والتي تؤدي إلى شيوع العنف .. فقد لاحظت أن الملفات التي تطرح طرق علاج هذه الأخطاء لم يسع من خلالها السادة الجهابذة المسؤولون سوى إلى "الحذف".. وليس "الإستبدال" فقد تقرر مثلاً حذف درس "الطيور في خطر من منهج اللغة العربية للصف الثالث الإبتدائي الذي جاء به أن الطيور قامت بإغلاق الخيام .. وأشعلت النيران في الصقور حسب الخطة.. وبعد اكتمال الخطة أنشدت العصافير "بلادي .. بلادي".


يذكرني ذلك بقصة أسطورية فحواها أنه في منطقة نائية مهجورة يقبع فندق قديم بالقرب من شاطئ بحر ممتد.. يدخل رجل بالغ الطول يحمل حقيبة صغيرة من باب الفندق يطلب حجرة مفردة .. لكنه ما أن يستقر داخل الغرفة حتى يفاجئ أن السرير الموضوع بها صغير لا يتسع لطول قدميه.. ويطلب استبداله .. موظف الإستقبال يتصل بصاحبة الفندق الذي تقيم به .. فتتجه بنفسها إلى النزيل.. وتحاول أن تقنعه بالامتثال للأمر الواقع والموافقة على النوم متكوراً مقرفصاً وهو يضم قدميه إلى صدره.. يرفض.. ويصر على استبدال السرير بآخر يناسبه في الطول.. تبدي السيدة أسفها لعدم وجود سرير بالفندق بالمواصفات المطلوبة .. يرفض البقاء .. لكنها تستوقفه مؤكدة له أن هناك حلاً حاسماً سوف يروق له كثيراً وتستمهله لدقائق.. تنصرف وتعود ومعها نجار.. واثنان من خدم الفندق الأشداء اللذان يسرعان بشل حركته وتقييده وطرحه على السرير.. ليبدأ النجار مباشرة عمله بنشر الأطوال الزائدة من قدمي النزيل ليصبح طوله ملائماً لطول السرير.


والحقيقة أنه ليس بحذف الدروس غير المناسبة – على طريقة نشر أرجل النزيل – يتم تطوير المناهج بالابتعاد عن أي دروس قابلة للتأويل حتى يغلقوا كافة الفرص أمام حدوث حالة من الجدل.. وكأن الجدل شيء ذميم ينبغي التخلص منه.. وهذا يكرس لنكبة التعليم في مصر القائم على التلقين والحفظ وترديد ما تم حفظه كالببغاوات دون اجتهاد في الاستنتاج والاستنباط والاستقراء والبحث والمناقشة وتبادل وجهات النظر والحوار حول القضايا المثارة.. وهذا معناه الجمود وعدم إعمال العقل والاستسلام للمسلمات وقوالب التعبير المتحجرة والقضاء على أي تطوير.