نقد البخاري
كان البخاري رجلا عظيما دون شك، وبذل مجهودا علميا جبارا في عصور بدائية لم تعرف وسائل البحث المتطورة أو تسهيلات علوم الأرشفة والمكتبات أو التقنية الحديثة، وعكف الرجل على دراسة عشرات الآلاف من الأحاديث من جديد، ولم يركن لعلوم سابقيه أو تدوينات أشياخه، ولم يستسلم لما جاءه من السلف.
ورغم أن البخاري قرأ مسند الإمام أحمد بن حنبل، والذي يحوي 30 ألف حديث، إلا أنه لم يُسلِّم بكل ما فيه، ونقد أستاذه، وأعاد النظر بأدواته هو.. كان رجلا مجددا شجاعا مستنيرا دون شك. وليس أمثال من يعبدونه ويقدسونه الآن من الماضويين.
ولو نظرت لكتاب البخاري تجده يحوي بعد حذف المكرر حوالي ألفين وخمسمائة حديث فقط. أي أنه ترك ما يزيد عن 90% من أحاديث مسند الإمام أحمد، أستاذه، ولم يسلم إلا بأقل من 10% منها. رغم أن البخاري قد ولد على رأس القرن الهجري الثالث، حيث قرب العهد بالنبي واتصال الحياة بصحابته وتابعيه.
وكان البخاري على درجة كبيرة من التحفظ في قبول الرواية واتصال السند، وكان يعمد إلى التقليل ما استطاع في إقرار الأحاديث، وهذا ما وصل له مدى علمه من حيث "السند" فهو رجل حديث، أما علم المتن، وهو ما يحويه الحديث من كلام وأحكام، فهو علم آخر يستقل به علم الفقه.
وكافة الفقهاء منذ القدم يعرفون أن صحة الحديث، من حيث السند، ليس وحده كافيا لاستخراج الأحكام الفقهية منه، بل هناك مرحلة وسيطة بين النص والحكم، تتدخل فيها أدوات أخرى مثل العقل والمصلحة والتفسير والعرض على القرآن.. وهناك من وضع شروطا أخرى لقبول المتن- حتى لو صحت الرواية- مثل الإمام مالك الذي اشترط ألا ينافي الحديث عمل أهل المدينة. ومثل أبو حنيفة الذي قال بعدم مخالفة الحديث لقياس راجح.
واتفق علماء الأصول منذ القديم، على أنه لو خالف النص حقائق العقل، أولنا النص وأخذنا العقل. والتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر يحتمله.
ولم يمر عصر من العصور إلا وتعرض كتاب البخاري خصوصا، والسنة عموما، إلى التفنيد والنقد والأخذ والترك.
فالإمام مالك سمع حديثا عن الرسول- رواه البخاري فيما بعد- أنه (ص) قال "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب". فرفض مالك الحديث وعرضه على كتاب الله الذي يجيز الصيد بواسطة الكلب، وأن الله أباح أكل ما يمسكه من فريسة، فكيف يكون اللعاب مكروها، والله أباح لعابه في الفريسة. ولم يتحدث عنه بنهي.
والإمام أحمد بن حنبل رد حديث- رواه البخاري فيما بعد- أن من مات وعليه صوم فليصم عنه وليه.. وقال إن هذا يناقض قاعدة قرآنية تتحدث عن شخصية المحاسبة يوم القيامة، فالقرآن قال (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى).
كذلك الإمام الشافعي الذي سمع حديثا- ورد في البخاري لاحقا- أن إحدى زوجات الرسول كانت تغسل الجنابة من ثوب النبي دون أن تغسل الثوب كله، وأنه (ص) كان يخرج للناس وملابسه مبللة بالماء.
ولكن الشافعي قال بغير ذلك، وذهب إلى وجوب غسل الثوب كله.
الإمام محمد زاهد الكوثري، وكيل مشيخة الآستانة، كتب كتابا كاملا ينتصر فيه للمذهب الحنفي الذي رد أحاديث في البخاري.
وانتهاء بالعصر الحديث، فالشيخ محمد عبده، مفتي مصر، رد حديث سحر الرسول الوارد في البخاري، واعتبره لغوا لا يجوز بمقام النبي.
كذلك الشيخ ناصر الدين الألباني، المحديث الأردني الشهير، والذي يقدره السلفيون، هو الآخر في نقاش له حول الصحيحين، قال إنه من الجهل بمكان ألا يدرك المتخصص في الشأن الإسلامي، أن العلماء الكبار منذ القدم وحتى الآن يتحدثون في الصحيحين فيقبلون ويرفضون، وما من عصر إلا رد بعد رجال الحديث والفقه فيه أحاديث واردة في كتب الصحاح.
فمن أين جاءت تلك القداسة المفتعلة حتى صار البخاري قرآنا بشريا يعبده الناس من دون الله!!
القضية قديمة، وكتب التراث مليئة بالسجالات الفكرية التي كسرت كل مقدس، والتي فتحت أبوابا كبيرة على الاجتهاد والتجديد ونزع القداسة عن البشر وعن رجال الدين وعن الفقهاء أنفسهم، واعتبرت التاريخ صناعة بشرية قائمة على التنوع والمسؤولية الفردية ومواجهة التحديات في كل عصر بما يلائمه من فقه جديد.
ولو علم البخاري أن زمانا يأتي على الناس وهم يعبدونه، ويصنعون حروبا وهمية حوله، ربما ما كان ليكتب هذا الكتاب. وهو الذي مر بمحنة في نهاية عمره حتى مات منفيا عن بلده، لخلافات فقهية مع مشايخ معاصرين له، ألبوا ضده الحكام السياسيين. حتى دعا الله أن يقبضه إليه، لأن بطن الأرض قد صار خيرا من ظهرها.
من أحاديث البخاري..
سألوا الرسول (ص) أي الإسلام خير يا رسول الله، فقال (ص)، "أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".
الطعام والكرم ومبادلة الناس جميعا المسالمة. هذا كل شيء.
قال النبي (ص)، "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".
قالوا، أي الناس خير يا رسول الله؟ قال (ص) "رجل في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره".
قال (ص) "إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة، قالوا وما إضاعتها، قال إن يسند الأمر إلى غير أهله".
قال (ص) "لا حسد إلا في اثنتين، رجل أتاه الله المال فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
قال رسول الله (ص) ، "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
قال (ص) "والله لا تؤمنوا حتى تحابوا".
وبتلك السباعية فالدين هو، كما جاء في البخاري على لسان النبي، هو الكرم وإطعام الطعام والمسالمة وكف الأذى واللسان المتعفف، وتولية الكفاءات، وتعلم الحكمة، والاستغلال الأمثل للمال، ورحمة كل من في الأرض، ونشر المحبة.
فهل هذا حال المسلمين..!