ما جناه المستريح
في عام 1989 أنتجت السينما المصرية فيلم "صراع الأحفاد" - القصة لكرم النجار، والإخراج لعبد اللطيف زكى.. والفيلم يتناول قصة رمزية فلسفية، تبدأ أحداثه بموت الجد ذي الاسم الموحي "إبراهيم نوح" الذي يموت ويترك وصية لورثة تركته، أن يحوزها الأفضل من الأحفاد أبناء العمومة الثلاثة، أحدهم يمثل العقل والفلسفة "بُرهان/ صلاح السعدني" والثاني يمثل المال مع ضعف العقل "حجازي/ نور الشريف" والثالث يمثل القوة البدنية "مجدي/ أشرف الكنزي".
ويتطور الصراع بين أبعاد فلسفية ودينية وخلقية، سعيا وراء الحصول على تركة الجد، والتردد بين السعي الحثيث والضجر المتراكم في البحث عن حكمة إرهاقه للأحفاد بعد موته أو غيابه، ويصل كل منهم إلى نقطة مأساوية في صراعه مع الآخرين ومع المجتمع، حتى يهتدي "برهان" وكيل العقل إلى الحكمة المُخفية وراء وصية الجد، الذي يختفي وجهه في صورته الزيتية المعلقة الضخمة، ولا تظهر الهيئة مكتملة تقريبا طوال الأحداث، إشارة إلى رمزية ممنوعة أو محرمة.
يقع أحدهم صاحب المال "حجازي" في أزمة مادية طاحنة، جراء استغلال زوجته وشريكها لقدراته العقلية المتواضعة، فيجمع المال من أهل بلدته لاستثماره، ويتعرض للنصب والسرقة من زوجته، ويتورط في أزمة مع سكان بلدته الذين يريدون قتله، أما "مجدي" فينخرط في بطولاته الرياضية، وينهمك في التمرين ومباريات الملاكمة؛ لإثبات أنه الأجدر بالإرث، حتى يشارف على الهلاك.
وأما "برهان" فعمله الأدبي الذي وضع فيه رؤيته لحكمة جده المخفية، يتنقل بين أيادي النقاد، ليتحول إلى عمل تجاري تافه رخيص، فيقع في أزمة مع مجتمعه الرافض لعقله وأفكاره، في الوقت الذي تقوم به زوجته بدور زوجة الفيلسوف في كل عصر وزمن من تحطيم مساعي زوجها وتسفيه مبادئه ومطالبته بمسايرة العصر وركوب الأمواج الجارفة، دون تصدٍ أو مقاومة.
يصل "برهان" مع إحكام الأزمة شدتها حول الغرماء الثلاثة، إلى حل لغز وصية الجد، الذي ما أراد نشوب الصراع، قدر ما أراد التكامل بين العقل والمال والقوة، لخلق كيان تعاوني تكاملي، يحيا في ظلاله الأحفاد ونسلهم!
يحاصر أهل البلدة "حجازي"، ويطالبونه بسداد الأموال التي وعدهم باستثمارها، بإلحاح من زوجته وعشيقها، ولا يسعفه إدراكه الضعيف قي فهم مأساته.. وهنا يؤدي صلاح السعدني مشهدا عبقريا يختتم به الفيلم، يخاطب فيه أهل البلدة المحاصرين لابن عمه "حجازي" بخطاب مونودرامي مميز.. يصفهم فيه بالكسالى والجهلاء.. وفيه يتحدث عن التكامل والتنوع كحكمة من الخالق، انعكاسا لما أيقنه من وصية الجد، يتحدث عن الثقة قائلا: "ثقوا في مؤسسة.. ثقوا في بنك.. فيه دولة!
لكن هل كانوا بالفعل جهلاء كسالى؟
قبل الفيلم بعدة سنوات ظهرت شركات توظيف الأموال، التي حازت ثقة قطاع لا بأس به من المصريين، مستبشرين بالربح الممتزج ببخور التقوى! وكان ما كان من ضياع أموال المودعين وصرف تعويضات في صورة سلع كمالية، وضياع الأعمار فى السعي وراء ما كان في اليد منذ قليل، وفقد البعض حياته كمدا وحسرة.
الآن وبعد مرور حوالي ثلث قرن، وقد نفضت الذاكرة خلاياها، كما تسلخ الحية جلدها، تتجدد الكرّة مع "المستريح" الذى نجح في جمع مبالغ قُدرت إعلاميا بما يقارب ربع المليار جنيه.. والأقدار لا تحرمنا من دلالات، فليس "إبراهيم نوح" فقط في فيلم "صراع الأحفاد"، هو الاسم ذي الدلالة، ولكن يفاجئنا "المستريح" باسم يكاد يشير بحروفه لكل من المودِع والمودَع إليه وكذلك السوق.
فلا شيء يستدعي العناء، وهناك في بلاد الصعيد المنعوتة بالأكثر فقرا، أخرجت له القرى مدخرات العمر.. مازال "برهان" يصرخ: يا كسالى تكاملوا.. ثقوا في مؤسسة.. ثقوا في بنك.. فيه دولة.
لكن ما الذي يجعل المصري عرضة دائمة لإشراك بدائل ونظائر في إدارة حياته مع دولته العتيقة؟!
الدولة الموازية.. السوابق كثيرة، ولعل أبرزها نماذج الاقتصاد الموازي في شركات توظيف الأموال، حيث الربح الحلال القائم على أنقاض ربا البنوك المحرّم بالفتوى.. الفتوى تهدم، والشركات تقوم بالبناء على الأنقاض!
كان هذا منذ ثلاثة عقود تقريبا.. في نهايات عصر الرئيس مبارك، ازداد نشاط الجماعات السلفية في القيام بحل نزاعات المواطنين ببعض الأحياء الشعبية، فض مشاجرة - جلسات صلح - مفاوضات بين بائع ومشتر في عقار أو أرض، مشكلات زوجية والتصدي في إشكاليات فسخ الخطوبة أحيانا، كأفراد يحوزون الثقة، لهم "يونيفورم" ديني، يخلق لهم نمطا شبه نظامي، يسدون مساحة اجتماعية تدمج مهام القاضي والشرطي ورجل الدين.
وبعد يناير 2011 عُرضت أكثر من مبادرة سلفية وإخوانية لمشاركة الشرطة في فرض الأمن والتعامل مع المواطنين وحماية لجان الامتحانات وغيرها، إمعانا في اكتساب صورة البديل للدولة، والقيام بدور الشرطة والقضاء في آنٍ.
كانت صورة الدولة الموازية والأجهزة البديلة مطروحة بقوة، وكان الناس يتقبلونها بقبول حسن، بدوافع الخوف المصاحب لانتشار الفوضى.. زالت هذه الصورة بدرجة كبيرة الآن، وتبقى عودتها لا قدر الله رهنا لتخاذل الدولة عن القيام بواجبها في فرض هيبتها ونفوذها واكتساب ثقة المواطن في أدائها، وردع من لا يَزَعُ بالقرآن بسيف السلطان على حد تعبير الخليفة الراشد عثمان بن عفان.
أشرت قبلا في مقال سابق، لمقال المفكر البحريني "د. محمد جابر الأنصاري" في دورية عالم الفكر، بعنوان "هجاء الدولة القُطرية يهدد بتلاشي مفهوم الوطن كمجال حياتي وحقوقي وحيد" وقد نشرته الحياة اللندنية في العام 2005 في ثلاث حلقات، ذكر فيه التشويه والنقض المقصود لأركان الدولة القُـطرية "بضم القـاف" وهى الدولة الوطنية - عن طريق أعدائها أصحاب المشروع الديني - أركانها الاقتصادية والأمنية والعسكرية، ووصمها بالعار والنقص وسبل الهدم المتباينة، أملا في خلق حالة من النقم الدائم، التي يكون معها المواطن على استعداد تام للفظ دعائم دولته، بل وتخريبها بيديه في أحايين كثيرة، كتمزيق مقاعد مواصلاته العامة، وتخريب المرافق وتشويه العمران، مستعدا مستبشرا بالبديل المخلّّص القادم بمبان ومرافق إسلامية.
إنها إرهاصات وبذور الدولة الموازية، الجاري زرعها باستمرار في نفوس ووجدان الجماهير..
المستريح شخص لطيف، ليس لديه ميول إسلامية فيما يبدو، لكنه قرر الاستنفاع بما غرسه الآخرون، جاء ليبنى على أساس الدولة البديلة التي أرساها أصحاب اقتصاد البركة، بالربح السهل دون عناء، يضاعف المدخرات بعيدا عن منطق الكسب والجّد.. هو "مستريح" بالفعل ليس لاستنفاعه بالمودعات، ولكن لاستنفاعه بجهود من أوعز للناس أن تثق في أفراد من دون الدولة.
المستريح استغفل الاثنين، الإسلاميين ببدائلهم التي أرسوها فجنى ثمارها، والمودعين بذاكرتهم السمكية القصيرة، التي تكرر أخطاءها.. لتظل كلمات "برهان" تتردد في الأفق أنقلها كما ذكرها فى مشهده الأخير:
مــع إن ربنا خلق الكون كلـه بالتكامل.. بحر مالح.. نهـر حلو.. صحرا صفرا.. غيطان خضرا ..الإنسان.. حيوان.. دراعى.. عقلك.. الفلوس دى جزء صغير جدا. إنما الإنسان الفاضل هو الإنسان اللي يعرف يتكامل مع الآخرين.
التكامل .. فوقوا.. رغبتكم المجنونة فى الكسب السريع والسهل هي اللي دمرتكم.. ليه وثقتم فى شخص؟!.. ثقوا فى بنـك.. ثقوا فى مؤسسة.. يا أغبياء يا كسالى.. يا كسالى.. مفيش واحد أحسن من الكل.. لأ.. ممكن فى فرد يغير.. آه.. إنما الكل أفضل.
تكامُل.. افهموا.
فيه رغبتكم.. ربنا خلق الكون ده بالتكامل.. مش فيه شمس؟!.. فيه قمر.. فيه إنسان.. فبه حيوان .. فيه موت.. فيه حياة.
جدي مكانش قصده ندبح بعض .. لأ بالعكس.. جدي كان قصده نكمل بعض، لأن إحنا لازم نكمل بعض.. الحياة كده .. في غباء .. في ذكاء .. هتحطوا فلوسكم في حتة.. تكاملوا.. لازم تفهموا إن الحياة ربنا أرادها متكاملة.. كل واحد بيكمل التاني.. فيه عقل.. في دراع.. في فلوس.. فى حد يعرف يفكر فيها..
فيه دولـــــــــــــــــــــــــة..
فى ناس بشر.. وفى ناس أغبيا..
أغبيا لأ.. مش عايزين أغبيا.. عايزين حقيــقة.. حقيقة فين؟
حد لازم فاهم.. الحقيقة فين .. لازم.