التوقيت الأحد، 22 ديسمبر 2024
التوقيت 11:45 م , بتوقيت القاهرة

برج القاهرة.. "رشوة الأمريكان" التي تحولت إلى "وقف روزفلت"

تلك التحفة المعمارية الشامخة المطلة على النيل، والذى تستطيع رؤيته بمجرد وقوفك على أي ارتفاع شاهق بالقاهرة، ذلك البناءالذي يتجاوز طوله الهرم الأكبر بنحو 43 مترا، "برج القاهرة" له قصة جديرة بالحكي، مزيج من الكرامة، ورفض الخضوع، والذي تحول فيما بعد إلى صفعة مؤلمة على وجه من حاول التحايل على الإرادة المصرية حينذاك.


 


كوبلن يراوغ التهامي


بدأت القصة كما يحكيها اللواء عادل شاهين، وكيل جهاز المخابرات العامه الأسبق، فى كتابه الذي يحمل عنوان "برج القاهرة أول مهمة قومية للمخابرات العامة المصرية"، أن حسن التهامي مستشار رئيس الجمهورية تلقى دعوه من مايلز كوبلن كبير ضباط المخابرات الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، لمقابلته فى فندق سميراميس لمناقشة موضوع على قدر كبير من الأهمية.

توجس التهامي من الدعوة بعض الشيء، فرأى أن يخطر أحد زملائه من قادة الثورة بأمر هذا اللقاء، من باب الحرص من أن يكون هناك مكروه ينتظره. وعلى الفور اتصل بزكريا محيى الدين المشرف العام على المخابرات وأحاطه بأمر اللقاء المنتظر دون أن يطلب منه اتخاذ أى إجراء.



رشوة ناصر


استقبل كوبلن حسن التهامي وتبادلوا عبارات الترحيب حتى أدلى كوبلن بدلوه وقال: "الواقع إن الكونجرس الأمريكى بمجلسيه قد توافق مع الاتجاه الذى تتبناه الحكومة الأمريكية الحالية ومن أجل تدعيم علاقة الولايات المتحدة مع الدول الصديقة فى المنطقة، وعلى رأسها مصر، قرر الكونجرس الأمريكى تقديم دعم مادى لرؤساء هذه الدول للتصرف فيه وفق ما يتراءى لهم، ولم تستحسن الحكومة الأمريكية أن يتم هذا من خلال القنوات الدبلوماسية. وكلفت بتولى تقديم هذا الدعم عن طريقكم للرئيس عبدالناصر رمزا للتعاون والصداقة بين مصر والولايات المتحدة. وأود أن أشير إلى أن الولايات المتحدة ستكون على أتم الاستعداد للاستجابة إلى أى طلبات أو مساعدات يطلبها الرئيس من عبدالناصر"، وقدم له حقيبة متوسطة الحجم وبها ستة ملايين جنيه مصري ليسلمها إلى جمال عبد الناصر.


 


ناصر يصفع الأمريكان


أيقن جمال عبد الناصر القصد من هذه العطية، وهو التأثير على الموقف المصري المساعد للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، بالكف عن مساعدتها ومساندة ثوارها، أي التأثير على القرار والإرادة السياسية المصرية، ورغم أهمية هذا المبلغ الضخم ـ في ذلك التاريخ ـ للجمهورية الوليدة، وبنيتها الأساسية، ومساعدة رجال الثورة على تثبيت أركان حكمهم للبلاد، فإن ناصر أعلن رفضه لهذه الرشوة، وأن الإرادة المصرية ليست معروضة للبيع.


وأراد أن يلقن الأمريكان درسا رغم أن العلاقة المصرية الأمريكية لم تكن قد ساءت بعد، فأمر ببناء برج القاهرة، وتم تصميمه على شكل زهرة اللوتس رمز الحضارة المصرية القديمة، وفي ذلك رسالة إلى الحضارة الأمريكية الوليدة.


 



بناء البرج


استغرق بناء برج القاهرة خمسة أعوام ويصل ارتفاعه إلى 187 متراً ، واشترك في بنائه 500 عامل، ويتكون برج القاهرة من 16 طابقاً، وهو يقف على قاعدة من أحجار الجرانيت الأسواني، وهي ذاتها الأحجار التي سبق أن استخدمها المصريون القدماء في بناء معابدهم الأسطورية. ويطل سطح البرج على القاهرة بأكملها، تستغرق رحلة الصعود إلى قمته نحو 45 ثانية، يكون بعدها باستطاعة الزائر أن يستمتع بمشهد بانورامي فريد للقاهرة وأهم معالمها السياحية، مثل الأهرامات وقلعة صلاح الدين ومنطقة الأزهر، وتم افتتاحه عام 1961، أي قبل 54 عاما، فى الحادي عشر من شهر أبريل.
ولم يتوقف دور البرج خلال فترة الستينات عند كونه معلما سياحيا بارزا، إنما تجاوز ذلك عندما تحول إلى مركز رئيسي لبث الإذاعات السرية والعلنية، تلك الإذاعات التي انطلقت من القاهرة لتغطي قارتي إفريقيا وآسيا، داعمة حركات التحرر الوطني، وأطلق الأمريكان على برج القاهرة "شوكة ناصر"، أما المصريون فأطلقوا عليه "وقف روزفلت".

ويقول تقرير حصري لهيئة الإذاعة البريطانية: إن مصر احتلت فى العام 1960 المرتبة السادسة في العالم من حيث عدد ساعات الإرسال متعدد اللغات، والتي بلغت حينذاك 301 ساعة، ارتفعت خلال أعوام قليلة إلى 560 ساعة، وقد كانت هذه الإذاعات الثورية أحد مبررات العدوان الثلاثي على مصر فى العام 1956.