عصر الإخوان ومكانته السامية في تاريخ مصر
نقلت بعض المواقع الخبرية في الأسبوع الماضي تصريحًا منسوبًا لمسؤول حكومي كبير قال فيه ما معناه إن حكم الإخوان لا يستحق أن يحتل أكثر من أربعة أسطر في تاريخ مصر. ولأن هذا التصريح قد جاء على هامش واحدة من تلك المناسبات التي يقتصر الاهتمام بها على المعنيين بشؤون الثقافة، فلا يجد كاتب السطور ضرورة لذكر المسؤول أو المناسبة، خاصةً أن لا غرض لديه في اصطياد تصريح من هنا أو هناك مجتزئًا من سياقه أو خارج حدود الظرف الذي قيل فيه. لكن هذا التصريح ـ بغض النظر عن قائله أو منطوقه ـ يعبر عن فكرة شائعة لدى الكثيرين منا، وهي فكرة قد يتفق بعض القراء مع الكاتب في أنها تستحق بعض المناقشة.
سمعنا ولازلنا نسمع ما ردده كثيرون منّا ولا يزالون ـ سواءً في الوقت الذي تمكن الإخوان فيه من حكم مصر وبعد تمكُن الشعب من إزالتهم من الحكم ـ فكرةً ملخصها أن جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية ليست سوى جملة اعتراضية في تاريخ مصر الطويل. نسمع ذلك بصياغات مختلفة ومن أناس تتباين حظوظهم من الثقافة والوعي. وهذه الفكرة لا تعبر فقط عن مشاعر السخط والكراهية التي يحملها أغلب المصريين ـ عن حق ـ لذلك التنظيم البغيض، ولكنها قد تعبر أيضاً عن علاقة الكثيرين منا باللغة والتاريخ. ولا يود الكاتب أن يكرر هنا ما سبق له طرحه عن هذه العلاقة في مقال سابق عنوانه "لغتنا الأم.. لكن أبانا التاريخ"، حيث تطغى اللغة على التاريخ لتعيد تشكيل وقائعه عكسًا للحقيقة وإرضاءً للذات؛ كل ما أسعى إليه هو مناقشة الفكرة القائلة بكون عصر الإخوان جملة اعتراضية في تاريخنا في ضوء ما هو مثبت ومعروف من هذا التاريخ.
نعرف جميعًا أن الإخوان المسلمين قد نشأوا كتنظيم ديني الصبغة يعمل بالسياسة منذ بداياتهم في العشرينيات من القرن الماضي. وقد اتخذوا من التحدث باسم الدين وسيلة للتقرب إلى الناس ونشر أفكارهم. لكن التاريخ يذكر لنا أيضًا أن حكام مصر الذين عاصرهم هذا التنظيم قد لعب كلٌ منهم على وتر الدين في لحظةٍ ما وفقًا لمصالحه. حاول فاروق أن يكون خليفةً، وأنشأ عبدالناصر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وحول الأزهر جامعة تدرس كل العلوم، واتخذ السادات لقب الرئيس المؤمن، وسار مبارك على درب سابقيه في الاعتماد على فتاوى رجال الدين وآرائهم في كل قانون وقرار. أعلنت كل الأنظمة السابقة ارتباطها بالشريعة الإسلامية بدرجات متفاوتة، ونصوص دساتير مصر المتعاقبة يمكن الرجوع إليها لمن شاء.
نعرف أن تنظيم الإخوان قد اتبع العنف منذ بداياته. فهم من أوائل من أدخلوا الاغتيال والاعتداء الجسدي وزرع القنابل إلى المشهد السياسي. ومنذ أيام الملكية وأتباعهم يجيدون إفساد المظاهرات التي تعبر عن وجهة نظر مخالفةً لرأي التنظيم والاعتداء على خصومهم بالضرب والترويع. لكن التاريخ يذكر أيضًا أن كل الأنظمة التي حكمت مصر وعاصرها تنظيمُ الإخوان قد اختارت في لحظات معينة أن تتعاون وتتقارب مع هذا التنظيم تحقيقًا لمصالح وقتية، مع علمها المؤكد بطبيعة التنظيم وحقيقة دوافعه. وفي لحظات التقارب تحول التنظيم العنيف إلى فصيل وطني أصيل وجماعة من الدعاة الأتقياء. بل أن كل نظام من تلك الأنظمة المتعاقبة قد استفاد كل منها من صدام الإخوان مع النظام الذي سبقه ليدلل على تفوقه في تبني قيم الحرية والديمقراطية مقارنةً بسابقيه. وقد ساعد ذلك الإخوان في ترسيخ "مظلوميتهم" والمبالغة فيها عبر العصور. فحرصُ كل نظام على أن يبدو خاليًا من ديكتاتورية النظام السابق عليه جعل من الإخوان ضحية الديكتاتورية الأولى في كل العصور. وكثيرًا ما روجت أقلام رصينة إلى أن عنف الإخوان ليس أكثر من رد فعل لاضطهادهم المستمر.
نعرف أن الإخوان تنظيم فاشي لا يؤمن بالتعددية أو الديمقراطية. لكن التاريخ يخبرنا كذلك أن الأحزاب المصرية ـ يسارية كانت أم ليبرالية ـ قد سبق لها التحالف مع الإخوان طلبًا لمكاسب انتخابية. الأحزاب التي كانت تتمتع بالصفة القانونية أدرجت على قوائمها مرشحين تعلم انتماءهم لجماعة محظورة في الثمانينيات. وبعد يناير التي منحت الإخوان حزبًا رسميًا ترشح كثيرون من معارضي "الإسلام السياسي" على قوائم تنظيمه الأشهر. هذا تاريخ عاصرناه جميعًا.
نعرف أن الإخوان جماعة يأتي الولاء فيها في منزلةٍ قبل الكفاءة، ولعل مجلس الشعب الإخواني والحكومة الإخوانية الذين عاصرناهما أكبر دليل على ذلك. لكن التاريخ يخبرنا أيضًا أن برلمانات مصر في عصورها المتعاقبة قد شهدت كثيرين ممن لا يملكون سوى موهبة التصفيق أو موهبة الاستغراق في النوم وسط أناس يتحدثون بصوت عالٍ. التاريخ يخبرنا كذلك أن كثيرين لم يصلوا لهذه المناصب بغير ولائهم للدولة أو للحزب الحاكم أو لكبير الأسرة أو القبيلة. يخبرنا التاريخ ومعه الواقع الحي أن كثيرًا من المناصب الحكومية الهامة لا زالت محجوزة لذوي الشأن الهام بغض النظر عن كفاءتهم. فالقرابة في بلادنا فضيلةٌ تفوق الكفاءة. وفلسفة الجماعة المغلقة على مصالحها لا زالت تحظى بالقدرة على الإقناع.
نعرف أن الإخوان قد حققوا في الانتخابات النقابية والتشريعية نتائج تفوق حجم شعبيتهم الحقيقي بين الناس. ونعرف أنهم قد استخدموا أحط الوسائل التي تستغل حاجة البسطاء وقلة وعيهم. لكن التاريخ يخبرنا كذلك أن الإخوان لم يستحدثوا تلك الآليات الانتخابية بل أجادوا فهمها فحسب. تلك الآليات اللطيفة التي أخبرنا عن تفاصيلها توفيق الحكيم في يومياته التي سجل فيها خبراته كنائب قضائي في الأرياف في الثلث الأول من القرن الماضي.
من حقنا كشعب أن نسعد بعودة وعينا وتخلصنا من حكم الإخوان. لكن لا تبرر لنا هذه السعادة أن نعتبر حكم الإخوان جملة اعتراضية في تاريخ مصر المعاصر، بل لعله أهم درس من دروس هذا التاريخ الذي لا زال حيًا ينبض. كذلك قد لا يكون الإخوان خوارج هذا العصر بقدر ما هم الأكثر تعبيرًا عن خزيه وعاره. التاريخ ليس سجلاً لتدوين البطولات والتغني بالأمجاد الحقيقية أو الزائفة. التاريخ هو سجل الخبرات المتراكمة، وما الخبرات إلا المسمى الذي نمنحه للأخطاء والخطايا. كيف نشأ الإخوان وكيف استمروا وكيف وصلوا للسلطة هو ما يجب أن يحتل المكانة السامية في تاريخنا؛ هم خطيئتنا الأكبر وعارنا. فعلى التاريخ أن يبرز الأخطاء ويحللها ويضعها في أوضح مكان أمام الناظرين حتى يمكن تجنبها في المستقبل. إنكار مسؤوليتنا الجماعية والتاريخية كشعب ونظام وثقافة عن الإخوان المسلمين نشأة وتكوينًا لن يفيد. اعتبار الإخوان جماعة غير مصرية هبطت علينا من بوابات الجحيم في غفلة منا لن يفيد. تخلصنا من الإخوان دون التخلص من الأسباب التي أدت لنشوئهم واستمرارهم لن يفيد. قد نستطيع تطويع اللغة أو ترويضها لصالحنا، لكن علينا أن نتحمل عقاب التاريخ الذي لا يعترف بغير منطقه الصارم. الاعتراف بالأخطاء التاريخية الحاكمة للواقع والمتحكمة فيه ومجابهتها قد تكون أكثر سموًا من التغني بأمجاد "وقتية" سرعان ما تزول. وكما يعني السمو الأخلاقي الترفع عن الصغائر والإساءة، فقد يعني السمو التاريخي تجاوز الكبرياء والهوى الوطني والاقتراب من الحقائق المؤلمة.
جماعة الإخوان في نشأتها وفكرها وممارساتها انعكاسٌ لعيوب راسخة في بنية أنظمتنا السياسية والاجتماعية بل والفكرية. إصرارنا كشعب على التخلص من وجودها الثقيل في حياتنا كتنظيم إرهابي يستتبعه بالضرورة إصرار على تغيير البنية الحاكمة لنظامنا في تجلياتها المختلفة. لا ينبغي لنا أن نترك اللغة الفضفاضة الحانية تلتهمنا في لحظة نشوة عابرة، ولا ينبغى أن نظن أن ترديدنا لمقولات مريحة يعني أننا قد تخلصنا من عيوبنا للأبد. لعل في بيتي نزار قباني مع تحريف كلمة واحدة ما يلخص المسألة برمتها:
لم يدخل الإخوان (اليهود) من حدودنا..
وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا..
والنمل يتسرب ببطء وإصرار وتنظيم، ويعاود الظهور دومًا عندما تظن أنك قد تخلصت منه للأبد. رش المبيد الفتاك لا غنى عنه، لكن النظافة وسد الشقوق أهم.