التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 12:48 ص , بتوقيت القاهرة

حوار حول التمكين

في إحدى ندوات معرض الكتاب الأخير - القاهرة 2015، وكان ضيفها المتحدث هو العقيد/ خالد عكاشة - الخبير الأمني ومدير المركز الوطني للدراسات الأمنية، بمناسبة صدور كتابه "أمراء الدم - صناعة الإرهاب من البغدادي إلى المودودي"، والذي يتناول سيرة سبعة من أشهر رؤوس صناعة التطرف والإرهاب. بدءًا من أبي الأعلى المودودي - حسن البنا - سيد قطب - محمد عبد السلام فرج - قلب الدين حكمتيار - أيمن الظواهري، ونهاية بأبي بكر البغدادي، مزودة بمحطات تاريخية وسياسية بارزة فى مصر والمنطقتين العربية والإسلامية، والكثير من تفاصيل جرائم الإخوان وشيعتهم.


وكان محور الندوة يدور حول الأوضاع الأمنية والسياسية الداخلية والإقليمية، والوضع فى سيناء، كحرب استثنائية تقوم بها القوات المسلحة وجهاز الشرطة المصريين، وقد استفاض يومها فى الحديث والإجابات عن الأسئلة التي وردته من الحضور.


حتى كان أن قمتُ وعرضتُ عليه تصورا يكمل المشهد، كان مضمونه: رغم كون الحرب في سيناء شرسة، لكنّها على كل حال حرب لا يلومنا عليها أحد. بمعنى أنها حرب صريحة بين قوتين، ينطبق عليها ما ينطبق على باقي الحروب، بخلاف بعض الأصوات المشبوهة، التي حاولت أن تصور المعركة على أنها حرب ضد المدنيين وليس ضد إرهابيين ومرتزقة وأعداء.


ولكن ما أراه، أنه إذا كانت الحرب في سيناء بمثابة "الهارد وير" للجماعات الإرهابية، فإن تنظيمات الإسلاميين المستقرة بالوادي والدلتا، والتي تقوم بمهمة التغطية وتوفير الدعم الفكري وتقديم المبررات التجميلية، وتلفيقات جلب البراءة للإرهابيين، بالإضافة لمسيرات أسبوعية لتشتيت الأمن وإرهاقه وتوريطه فى قضايا مفتعلة، هي بمثابة "السوفت وير" أو التغذية الناعمة، وبدونهم يصعب أن  يستقيم للإرهاب طريق.


ولو كان هؤلاء يقومون بمهمتهم في الشارع أو خلال أدائهم لمهام أعمالهم الخاصة مثلا، لهان الأمر.. لكن يعلم القاصي قبل الداني أن كل هذا يحدث بداخل أروقة مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، وداخل دواوين العمل الحكومي، وإن كان الأمر قد بدأ على استحياء فى أعقاب 30 يونيو 2013، إلا أنه بمرور الوقت صار هؤلاء يكتسبون المزيد من الجرأة والتمادي, بفعل ثباتهم دون عقاب، وعدم وجود رادع إجرائي يوقف مسعاهم، وأصبح موقفهم مألوفا إلى درجة الجهر بالفرح والتشفي عقب حدوث عمليات تخريبية ضد الدولة، أو عمليات إرهابية ضد قوات الجيش والشرطة، وصل أحيانا بشهادة البعض إلى حد توزيع الحلوى والمشروبات احتفالا بنجاح عملية إرهابية أسقطت شهداءً.


يعني هذا أن الدولة تحارب تنظيما إرهابيا، تأوي جناحا منه داخل أجهزتها، يقوم بعرقلة خطواتها وإفشال مسعاها، من مخبأه الآمن في مبانيها وأمام أعينها، ولا تتوقف المأساة حتى هنا، بل أن الدولة تكفل له فى نهاية كل شهر مرتبًا منتظما، نظير ما يقوم به من بث الإحباط وتبرير العنف فى نفوس زملائه، وحثهم على مطالبة الدولة برفع مرتباتهم وحوافزهم، باعتبارها حقوقهم المسلوبة.


يظهر من أحاديث هؤلاء تشابه أقوالهم فى المؤسسات المختلفة، أو حتى عند استماعك لأحدهم في فضاء عام أو محل للبيع والشراء، فتارة تجد الاتفاق قد حدث فى الإشارة لمميزات القضاة، التي ينالونها أكثر من باقي فئات الشعب، وتارة يكون التثوير بالتوجيه نحو ارتفاع معاشات القوات المسلحة, ومؤخرا شيوع صيحة "راحت فين  الـ 200 مليار جنيه"، وهي الترجمة الرقمية للمبلغ الذي أعلن الرئيس السيسي مساعدة الخليج به لمصر على مدى عامين. 


ربما ينكشف من هؤلاء قلة صغيرة، تقع في قبضة قوات الأمن، خلال ممارستهم أعمال عنف صريحة، أثناء إعداد قنبلة أو ضمن مسيرة تخريبية، أو مهاجمة كمين شرطي بليلٍ، بعد انتهائهم من مجالسة زملائهم ومفاكهتهم وتناول إفطارهم معهم بالأمس!


انتهى كلامي المنقول بمعناه، الموجه إلى العقيد خالد عكاشة، وقد نالت الملاحظة تجاوبا فوريا لعدد من الحضور، بما يوحي بأن هناك شحنات محملة بالصدور، ينتظر الكثيرون تفريغها، حتى أنه قال فور انتهاء حديثي: جاءتنى العديد من الشكاوى من الأقارب والمعارف بنفس ما تقوله، وهو أمر صعب فيما يبدو، لكن ماذا ترى؟ هل ترى أن الإقصاء حل، برفتهم مثلا؟!


فأجبت بالنفي، فربما الدولة لا تود سد باب الأمل فى وجوه الكثيرين, فتترك لهم بابا للتنفيس، لكن يبقى هناك فارق بين التنفيس والتمكين، فوضع خصمك أمام عينيك، لا يعني أبدا مشاركته سلاحك، حتى هؤلاء قد نال بعضهم امتيازات وترقيات إدارية طيبة من بعد 30 يونيو، تجعل منهم محاور إدارية يتشكل حولها تشكيلات عنقودية من الإخوان وغير الإخوان، الذين يدينون لهم بالولاء الوظيفي والإنساني، والوظائف لا تخلو من متسلقين، على استعداد للتغاضي عن أي شيء في سبيل مرادهم.


نفس الأمر يقوم به أفراد الإخوان وشيعتهم، في كل نطاق عمل خاص، فعند استقدامك لأي عامل فني، لإصلاحات منزلية، ويتطرق الحوار معه نحو السياسة، وستدهشك قدرته على عرض سلبيات الدولة فيما تلى 30 يونيو، مع تأكيد احترامه الشديد للدكتور مرسي المظلوم.. بعضهم يفعلها تطوعا وأغلبهم تكليفا واتفاقا، لكنهم على كل يعملون كأجهزة دعائية ديناميكية، لإثارة نزعات الحقد والغضب.


فطريقة "اضرب ولاقي" التي يتبعها الإسلاميون، قد أوجدت لهم فيما يبدو مستقرًا آمنًا وطويل المدى، بالتكامل مع "التقية السياسية  والدينية"، فالإسلامي قد اعتمد لنفسه طريقا يمكنه فيه أن يخرَّب كثائر ويطالِب كمواطن، ويحرِّض كمتدين، ويتظاهر بالبراءة.


في الفصل الثاني من كتاب "أمراء الدم" الذي يتضمن سيرة "حسن البنا" ينقل خالد عُكاشة جانبا من مرافعة مصطفى الهلباوي رئيس نيابة أمن الدولة أمام محكمة الشعب فى 1954 يقول:
 "ولعلكم يا حضرات القضاة لاحظتم على الشهود أن هذه الجمعية، كانت حريصة، كل الحرص، على أن تختار فى نظامها السري أو الخاص طائفة من الفقراء، فقد شهدتم الحداد، والمطبعجي، والسمكري، والعامل في وزارة الصحة، ولعل هدفها الأول في اختيار هؤلاء الفقراء أنها أرادت بذلك أن تستغل عامل الفقر في هؤلاء الناس، فسلكتهم في هذا النظام السري الفدائي الإرهابي، لتثير فيهم غريزة الحقد على هذا المجتمع، وهي غريزة تجعلهم أكثر تعصبا للمبادئ المخربة".


مما جعل جمال سالم رئيس محكمة الشعب في جلسة 13 نوفمبر 1954 يسخر من الأمر قائلا: "يعني الحمد لله كل الجهاز السري خردواتية وسمكرية وموظفين في الدرجات الصغيرة, مالقتش مهندس واحد ولا واحد مدير إدارة".


تمحورت رؤية العقيد خالد عكاشة مع استنكاره الواضح لما آلت إيه الأمور، حول اللجوء للنفس الطويل، حتى تعود الأمور لطبيعتها ويفرض الواقع نفسه، وتصبح دواوين العمل مقرات للأداء الوظيفي فقط، دون التشاحن السياسي، وأن الإقصاء التام ربما يكون غير ذي جدوى، وانعطف اللقاء إلى ترجيح الخبير الأمني للرؤية السياسية الهادئة في التعامل مع هذه الفئات، مع وجود غضب كامن بالصدور من الحضور "المدنيين"  الذين يتمنون الإقصاء والعقاب القانوني والسياسي، للإرهابيين وأعوانهم.


إن قطاعات بالدولة أشهرها الكهرباء مثالا، وهو مرفق أصبح حساسا وربما له الأولوية السياسية، تثار حوله شبهات عديدة، حول تحكم أعضاء الجماعة في مواقعه. 


وربما كان خبر إعفاء المتحكم فى غرفة الكهرباء المركزية بمصر منذ شهور قليلة، يفرض تساؤلات منطقية، عن كيف تولي الدولة أعداءها مراكز حساسة بهيكلها الإداري والتنفيذي، دون الاعتماد على تقارير أجهزتها الأمنية؟!


فى نهاية الندوة دار حديث جانبي، بيني وبين ضيف الندوة، أبدى فيه تأييده قولي مبدياً ضيقه مما يحدث، راسما علامات الامتعاض والأسى على وجهه، وفيما وراء الحديث سرى معنى لم يقال: أننا نمر بمنحنى عسير، فلنتحل بالحكمة حتى نعبـره بسلام.