أمة عربية أم وطن عربي
لم يتوقف الحالمون والمؤمنون بفكرة القومية العربية يومًا، عن اجترار أحلام قديمة عن جيش عربي موحد، وجواز سفر عربي واحد، وعملة عربية واحدة، وأوطان بلا حدود. دومًا كان للقومية العربية، دراويش ومريدين، سواء في طبعتها الناصرية، أو طبعة ميشيل عفلق والبعثيين؛ دراويش يؤمنون بكل أدبيات الفكر العروبي من وحدة المصير والهدف إلى ما لا نهاية له من أطنان البلاغة المسجوعة، والكليشيهات الحماسية التي خدرت الوجدان الجمعي للشعوب العربية، حتى أفاق من أحلامه صبيحة السادس من يونيو عام 1967 لتتنحي الفكرة القومية جانبًا، مسلمة الراية للمد الأصولي الإسلامي الذي طرح نفسه كبديل منحوه مسمى خادعا هو "الصحوة الإسلامية"، أعلن عن نفسه في صورة حركات راديكالية، تتوسل بالعنف والإرهاب، بعدما أحدثت اختراقًا نوعيًا في الوعي العام والمجال الاجتماعي، غير من الطبيعة الاجتماعية لشعوب المنطقة، بدت تجلياتها واضحة في انتشار غطاء الرأس للمرأة المعروف شعبيًا بالحجاب، وتمدد الفكر الأصولي والوهابي في أوصال النظام التعليمى والمؤسسات، والنكوص عن كل مكتسبات الإحياء والحداثة في فترة ما قبل حركة ضباط يوليو 1952 لصالح التفسيرات الغيبية والخرافية لكل أمور الحياة.
لا أزعم أنني كنت يوما من المؤمنين بشكل رومانسي بفكرة القومية العربية، بل إنني لا أستريح لمُسميات فارغة من معناها دأبنا على تقبلها كمُسلمات، رغم عدم وجود أساس منطقي لها على الأرض مثل مسمى "القومية العربية" إذ كيف يكون وطنًا، والوصول إلى القطب الشمالي يبدو أحيانا أسهل من الوصول إلى جزء من هذا "الوطن العربي" ومسمي أكثر شوفينية نستعذبه ونراه فخمًا بما يليق بغرورنا وهو "العالم العربي" وهو مسمى لم تجرؤ الصين، ذات المليار ونصف نسمة أن تستخدم بادئته، وتسمى نفسها العالم الصيني، ونفس الشيء ينسحب على الهند وأمم أخرى ذات إسهام وإرث حضاري، يتجاوز مجرد تحدث لغة واحدة، إلى لعب دور فاعل في حركة التاريخ القديم والحديث. وهي مسميات استبدلناها في فترة ما بعد الاستعمار بالمُسمى الجيوبولتيكى للمنطقة في محفوظات بريطانيا العظمى الذى يُعرٍّف المنطقة "بالشرق الأدني".
كان لا بد من هذه المقدمة، التي قد تبدو صادمة ومريرة، قبل أن أعرج على مؤتمر القمة بشرم الشيخ الذي انتهى أول أمس، والذي أراه حدثًا استثنائيًا، وتعاطيًا مغايرًا مع الأخطار والتحديات التي تواجه الدول العربية، وأرجوك عزيزي القارئ أن تشاركني في كوننا نتحدث عن "دول عربية" وليس ما يسمى عاطفيًا "بالوطن العربي" لأننا نعرض للواقع، وليس لليوتوبيا التي رسمها عبد الناصر، وميشيل عفلق والقوميون الأوائل. الحديث عن دول تتشارك في همِّ واحد، وتخشى نفس الخطر، ويرتبط أمنها القومى، ببعضها البعض؛ يصبح أكثر واقعية، ويقود إلي فهم صحيح لحركة التاريخ، وبالتالي تصبح الحلول مبنيًة على هذا التشارك في المصلحة والخطر، وتصبح طرحًا يمشي على قدمين، وليست عبارات إنشائية، ثبتوا في حروفها أجنحة من وهم، تسقط مع أول اختبار.
من هنا بدا لي مؤتمر القمة العربية بشرم الشيخ، أول مؤتمر قمة يتفهم طبيعة الخطر بالتعامل معه بشكل استباقي بقيادة المملكة السعودية، قرأ الواقع وطرح من خلال مصر ورئيسها، آلية لإنشاء قوة ردع وتدخل عربية، المؤتمر جمع لأول مرة دولًا بينها تباينات سياسية عميقة، وإختلافات جوهرية، ولكنها من منطلق المصلحة، تتشارك في نفس الخطر؛ مصر وقطر نموذجًا، المؤتمر تعامل ببراجماتية مع نقاط الضعف التى قد تؤثر في منظومة قوته، بالمساندة الاقتصادية لمصر لإقالتها من عثرتها بوصفها رصيدًا مضافًا إلى القوة العربية من خلال مؤتمر اقتصادي ناجح سبق القمة بأسبوعين، مؤتمر القمة بشرم الشيخ لم ينح اللاعبين الدوليين جانبًا، وإنما فتح قنوات اتصال مع أمريكا وأوروبا ولاعب إقليمي هام كتركيا. ما تمخض عنه المؤتمر، هو الحد الأدنى من التنسيق، الذي طالما حلمنا به وتمنيناه بدون رعاية أمريكية أو ضرورات تمليها قواعد اللعبة الدولية.
يمكننا أن نتحدث لعشر سنوات قادمة، عن وحدة اللغة والدين والمصير وهي بالطبع حقيقة، أو كل المأثورات البلاغية التى لقنوها لنا في المدارس، مع الخريطة الملونة الجميلة التي تسمى "الوطن العربي" لكن ذلك لن يقود إلي فعل علي الأرض، يُغير من حالة الهوان والضعف التى عصفت بالدول العربية، حتى أصبحت عواصم ودول بكاملها تحت سيطرة قوي إقليمية طامعة كإيران، التي تمددت لضعف الداخل العربي، وليس لفرط قوتها في ظل تخلٍ أمريكي صارخ عن حلفاء عرب، طالما ساندوا أمريكا في مغامراتها من أجل مصالحها، كي يتكشف للجميع أن التغطى بأمريكا هو الإنكشاف الكامل. لو أرجأت أوروبا اتحادها لعدم وجود وحدة بين دولها في اللغة والدين، ما أنجزت خطوة واحدة نحو التقدم والنمو بينما إتحادها يتحدث أعضاؤه لغات مختلفه ولكن مصالحهم التقت عند الصعود معا بدلًا من التنافس والصراع.
اليمن ليست الخطر الوحيد الذي يواجه الدول العربية بوصفها خاصرة جزيرة العرب، بل إن مصر تحديدًا، لا يمكن أن تتصور أن المرور من باب المندب إلى قناة السويس، قد يصبح رهنًا بإشارة من إصبع أية الله خامنئي. الخطر ماثل على كل الحدود في ليبيا وسيناء والعراق وسوريا. الدواعش على مرمى قذيفة RBJ والمد الفارسي علي مسافة أميال بحرية، وإسرائيل مفتوحة العينين على الجميع، لذلك يبدو الرئيس عبد الفتاح السيسي أكثر واقعية، وهو يطرح مشروع القوة العسكرية العربية المشتركة، فهي مصلحة للجميع وليست حلفا هجوميا توسعيا ضد أحد، بقدر ما هي ضمانة للحد الأدني من الأمن الإقليمى للدول العربية التي تحيق بها المخاطر من كل جهاتها الأصلية.
أخيرا أيقن الجميع أن الخطر لن يستثني أحدًا، وأن إعلاء لغة المصلحة المشتركة على القُبلات والأحضان في القاعات الرئاسية، هو العاصم الوحيد من تسونامي الشرذمة والضياع في مجاهل التاريخ. كان ختام كلمة الرئيس السيسى موفقًا وهو يردد ثلاثًا " تحيا الأمة العربية". في منظوري المتواضع يوجد كيان لعدة دول تشكل "الأمة العربية"، التي بالفعل تتشارك الهم والمصير، مع بقائي علي إيماني بعدم وجود وطن خيالي يوتوبياوي اسمه "الوطن العربي".