"طوق النجاة".. هكذا حاولت مصر إنقاذ السودان
لطالما كان ما تشكله مصر والسودان من وحدة طبيعية وجغرافية وتاريخية وثقافية وديمغرافية، تضرب بجذورها في أعماق تاريخ صاغ حضارة وادي النيل، ذلك النهر الذي جعل من ارتباط كل منها بالآخر ارتباطا عضويا ومصيريا، فضلا عما تشكله الخرطوم، مدخل القاهرة إلى قلب القارة الإفريقية، من عمق استراتيجي وامتداد للأمن القومي المصري، إطارا يرسم طبيعة العلاقات بين الجارتين.
وعلى مدار تاريخ البلدين، واستنادا على هذا الأساس، كان من الطبيعي أن يأتي الموقف المصري الداعم للسودان بمثابة "طوق النجاة"، في كل ما يحفظ له أمنه وسلامته واستقراه، خلال الأزمات التي مر بها، لا سيما في أزمة إقليم دارفور، وما تبعها من إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال الرئيس السوداني، عمر البشير، حتى انفصال الجنوب.
صراع دارفور
أواخر فبراير/ شباط ومطلع مارس/ آذار من عام 2003، نشأ صراع ضيق النطاق بإقليم دارفور غرب السودان، بين الحكومة السودانية والحركات المتمردة، الصراع الذي كان يأخذ طابعا عرقيا لم يتم احتواؤه في وقته، ربما لاستصغاره ولاستبعاد السلطات أن تبلغ المسألة الدارفورية مبلغا دوليا.
مصر تعاملت مع أزمة دارفور في بدايتها على أنها صراع داخلي يجب أن تحله الحكومة السودانية بمفردها، لكن عندما ازدادت الضغوط، لعبت القاهرة دورا أكبر من أجل تجنب السودان التدخل الخارجي، أو اللجوء إلى تطبيق عقوبات دولية كآلية لحل الأزمة أو تحسين الأوضاع الإنسانية للمتضررين من السكان، وعملت على ضرورة التوصل إلى اتفاق سلام شامل وعادل بين الطرفين.
وتم عقد العديد من اللقاءات بين البلدين، وشاركت مصر في القمة التي عقدت في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2004، وبحثت نتائج قرار مجلس الأمن الدولي بشأن محاكمة المشتبه في ارتكابهم جرائم حرب في دارفور، متابعة للقمة التي عقدت في العاصمة الليبية طرابلس في الشهر نفسه، لمناقشة كيفية احتواء الوضع في دارفور وعدم تدويله، وإتاحة الفرصة للاتحاد الإفريقي للقيام بدوره في تعزيز من المجتمع الدولي، لكن تم إلغاؤها وتحويله إلى طرابلس.
كذلك أعلن الرئيس المصري (آنذاك)، حسني مبارك، دعم بلاده الكامل للسودان في سعيه للعمل على حل أزمة دارفور، وأمر بتقديم مساعدات مادية للمنكوبين هناك، فوصلت في شهر أغسطس/ آب عام 2004 خمس طائرات حربية مصرية كبيرة محملة بالمواد الغذائية وغيرها من المساعدات الإنسانية لإغاثة المتضررين في دارفور.
وفي خطوة اعتبرت امتدادا للجهد المصرى، وإعادة بلورة لأفكار مصرية، أعلن رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي ورئيس التجمع الوطني السوداني المعارض، محمد عثمان الميرغني، في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2006، مبادرتين تتعلق الأولى بتوحيد الحركات والفصائل المتمردة بدارفور، والأخرى لجمع الصف الوطني السوداني وترسيخ دعائم السلام فيه، معطيا الأولوية للبدء بالمبادرة الخاصة بدارفور عبر مائدة حوار تعقد في القاهرة.
اعتقال البشير
في مارس 2009، وعلى خلفية الصراع في إقليم دارفور، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني، بسبع اتهامات منها ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والترحيل القسري والتعذيب، وتوجد تهمتان من جرائم الحرب منها قيادة الهجمات ضد السكان المدنيين، ليصبح البشير أول رئيس دولة ملاحق جنائيا وهو على رأس حكمه، قبل أن تضيف له تهمة الإبادة الجماعية في العام 2010.
وكانت مصر، التي أكدت قوفها مع السودان ومساندتها له حكومة وشعبا في حالة التأزم التي يتعرض لها، وتسخيرها كل اتصالاتها الدبلوماسية وعلاقتها السياسية لخروجه ورئيسه من مأزق المحكمة الدولية، أحد أسباب فشل المحكمة في تنفيذ الحكم، حتى أن منظمة العفو الدولية طالبت في 14 سبمتبر/ أيلول 2012، الحكومة المصرية بسحب دعوتها إلى البشير لزيارتها، وإلقاء القبض عليه في حالة وصوله إلى القاهرة.
انفصال الجنوب
ومنذ إطلاق عملية التسوية السياسية للحرب الأهلية في جنوب السودان، التي تجسدت في توقيع اتفاقية "نيفاشا" 4 في يناير/ كانون الثاني 2005، التي أظهرت للجميع أن الجنوب يوشك على الانفصال، ومن ثم سينقسم السودان إلى دولتين شمالية وجنوبية، حاولت مصر منع السيناريو الخطير على أمنها القومي من الحدوث.
مصر سعت إلى المساهمة في حل الأزمة السودانية من خلال المبادرة المشتركة التي قدمتها بالاشتراك مع ليبيا، وكانت أكثر شمولا للقضايا الخلافية واحتواء للأطراف السياسية السودانية كافة، فقد دعت إلى إعمال مبدأ المواطنة والمساواة التامة دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو اللون.
غير أن المبادرة المصرية لم تكن تشتمل على مبدأ حق تقرير المصير، الذي اشتملت عليه مبادرة منظمة الإيكاد، التي تمثلت في توقيع اتفاق "ماشاكوس"، في يوليو/ تموز من العام نفسه، وكان هذا السبب بالتحديد هو الذي وقف عائقا أمام تقدم المبادرة المشتركة، خصوصا أن الحركة الشعبية لتحرير السودان قبلت بها شكلا وظلت تعرقلها مضمونا من خلال المراوغات الإجرائية.
وبعد أن هدأت الانفعالات الأولى التي صاحبت التحفظ المصري على حق تقرير المصير، بدأ يظهر بالتدرج نوع من التحول الهادئ في السياسة المصرية التي اتجهت إلى التعامل مع الأمر الواقع، باعتبار أن حق تقرير المصير للجنوب قد أصبح أمرا واقعا عبر اتفاق قانوني ملزم، لا سيما أن كل القوى السياسية السودانية كانت قد أعلنت تأييدها للاتفاق، الذي انتهى بالاستفتاء على تقرير المصير في 9 يناير 2011 وصوت الجنوبيون باكتساح للانفصال.