التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 12:57 م , بتوقيت القاهرة

أوباما عراب الاحتلال الإيراني

في عيدها الرابع، كانت الثورة السورية على موعد مع حزمة جديدة من التصريحات الأميركية المربكة والمرتبكة. رئيس الاستخبارات الأميركية المركزية جون برينان قال في محاضرة في "مجلس العلاقة الخارجية"، أحد أرقى مراكز البحوث الأميركية، إن واشنطن حريصة على منع انهيار "الحكومة والمؤسسات السياسية" في سوريا، وعدم خلق فراغ تملؤه داعش.


التصريح يفصل بسذاجة بالغة بين بشار الأسد و ما يسميه "الحكومة والمؤسسات السياسية"، دون أن يعطي أي تفسير عملي لكيفية الفصل في بلاد يختصرها الحاكم بشخصه. وهو تصريح ما لبث أن فهم، في العالم العربي، حيث نظرية المؤامرة هي عنصر مكون من عناصر الثقافة السياسية، بأنه تراجع أميركي عن سياسة رحيل الاسد. 


كلام برينان، أعقبه تصريح مفكك لوزير الخارجية الأميركية جون كيري خلال مقابلة مع محطة "سي بي إس" الأميركية قال فيه، في معرض إجابته عن سؤال حول استعداده للتفاوض مع بشار الأسد: "لا بد من التفاوض في نهاية الأمر" من أجل إتمام الحل السياسي في سوريا. الخارجية الأميركية علقت على التصريحات بأنها لا تمثل تغييرا في السياسة الأميركية حيال سوريا، وصدر بيان عن الخارجية في أعقاب المقابلة ينفي أن كيري سيفاوض الاسد. 


لكن كما برينان، يندرج كلام كيري في سياق تغذية التفسيرات المؤامراتية للموقف الأميركي من الأزمة السورية وسرعان ما تصبح لهذه التصريحات سياقات خاصة في لعبة الصراع بين اللاعبين المحليين في المنطقة ليست هي بالضرورة السياقات نفسها لهذا التصريح أو ذاك الموقف.


خطورة الكلام الأميركي ليس في أنه يشكل تحولا في السياسة الأميركية حيال سوريا، بل في أنه تعبير دقيق عن انعدام السياسة أصلاً. لا سياسة أميركية حيال سوريا ثابتة، خارج أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لا يريد حربا في الشرق الأوسط، ولا يريد تدخلا عسكريا يعمق الأزمة السورية ويفيض بها بشكل أعنف وأخطر خارج حدود الكيان السوري.


تصريحات برينان وكيري، بهذا المعنى، هي الرطانة واللغو اللذان تملأ بهما واشنطن الفراغ السياسي الذي يميز موقف إدارة أوباما من سوريا.


والخطورة الأكبر لهذا التخبط الأميركي والارتجال السياسي حيال سوريا، أنه يَصْب مياهاً كثيرة في طاحونة المشروع الإيراني الذي يقوم على الاستثمار في هواجس الدول العربية وشعوبها والتلاعب بمعنوياتها ومكوناتها بغية دفعها إلى المزيد من التطرّف.


الأداء الأميركي هو تأكيد لدول المنطق أنها متروكة لوحدها أمام التغول المذهبي الإيراني، الذي بات يسفر عن وجهه بلا تردد. بل أن أمريكا تتصرف وكأنها تتفهم هذا المشروع الإيراني نفسه، وهو ما يعطي خيارات التطرّف أرضا خصبة للنمو في الوقت الذي يُضعف فيه ممثلي الاعتدال السياسي ويقضم من مشروعيتهم في بيئاتهم. 


فالثابت حتى الآن أن إيران لا تبغي هزيمة داعش، على ما تظن واشنطن في تقاطعها الأخير مع نظام الملالي. بل إن كل ما تقوم به من استنفار أدواتها وعناوينها وصورها المذهبية يعمل على تزخيم بيئة حاضنة لداعش، ويعزز مسوغات التطرّف في مواجهة الطغيان الإيراني، بما يعود ويبرر المهمة الإيرانية في محاربة الإرهاب، أي الاسم الحركي للاحتلال الإيراني.


نجحت إيران في إدخال واشنطن في دوامة التدوير هذه في اللحظة التي تمر فيها الخيارات الاستراتيجية الإيرانية بتحول عميق، ينتقل بها من محاربة الصهيونية إلى محاربة التكفير. وها هي إيران على لسان "معجزتها في لبنان"، بحسب توصيف مسؤولين ايرانيين، تعلن أنها ليست راغبة في قتال إسرائيل في الوقت الذي تشحذ فيه الهمم لمقاتلة التكفير، وتقديم الأثمان الفادحة في الحرب معه. وبالتالي فإيران تحتاج وهي تقدم على تسوية نووية مكلفة مع واشنطن إلى إعادة إنتاج أعداء جدد يتيحون لها أولا تغطية التفاهم الناشئ مع الشيطان الأكبر سابقا، وثانيا المضي قدما في مشروع هيمنتها على المنطقة تحت مسمى محاربة الإرهاب.


في هذا السياق تُفهم وظيفة الخطوات الإيرانية الأخيرة، من وضع الحرب على الإرهاب في أوضح إطار مذهبي، وصولا إلى هدم قبر صدام حسين في تكريت، والذي يأتي استكمالاً لمشهد إعدام صدام صبيحة عيد الأضحى عام 2006، وعلى وقع صرخات "يا مهدي"، في واحدة من أحط اللحظات المذهبية في تاريخ هجوم ايران على المنطقة. ليس هذا دفاعا عن صدام وهو صاحب جريمة مديدة بحق العراق، بل إدانة لمعالجة الجريمة بجريمة، بحق العراق ودولته ومستقبله.


تعمل إيران بهمة عالية على "تجنين" عموم البيئات السنية تمهيدا وتشريعاً لضربها، فيما تقترح بوقاحة وعنجهية على بعض هذه البيئات أن تتحالف معها في ضرب بعضها الآخر. وهي بهذا تؤلف مخرجا لحربها المذهبية على المنطقة، يضع الحرب الأهلية السنية الشيعية في إطار حرب سنية سنية تقف إيران فيها كقوة إسناد مع فريق سني ضد آخر.


تفعلها عبر بعض العشائر السنية في العراق وعبر الحوار السياسي مع تيار المستقبل في لبنان وعبر الاستثمار في أحقاد علي عبدالله صالح في اليمن. تصريحات برينان وكيري تفصح عن حجم العمى الأميركي حيال حقيقة وطبيعة المشروع الإيراني، فيما المنطقة كلها تقدم على طبق من ذهب رشوة لإيران لتتنازل عما تجتاج إيران أصلا أن تتنازل عنه لإنقاذ نفسها من الإفلاس. 


وهذا تكون إدارة أوباما هي العراب الحقيقي للانفلات الداعشي الذي يسيل له لعاب طهران. فلا وصفة اكثر دقة لتحويل المنطقة إلى داعش سوى تخيير شعوبها بين الإرهاب الجهادي السني أو هيمنة الإرهاب الجهادي الشيعي!