التوقيت الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024
التوقيت 02:55 ص , بتوقيت القاهرة

غزوة ذات التعايش

لتوه أنقضى معرض الرياض الدولي للكتاب، والذي يقام كل سنة تحت إشراف وزارة الثقافة والإعلام السعودية، تشارك فيه دور النشر المختلفة من كل البلاد العربية وتقام لقاءات وأمسيات ثقافية ومسرحيات. يتابع أغلب السعوديين أخبار المعرض والتي تمتاز بالسخونة وبدرجات عالية من الأكشن والفضل في ذلك يعود إلى الغزوات الاحتسابية لكتائب المحتسبين المقدسة.



من هو المحتسب؟ في الماضي كان المحتسب موظف يعينة الحاكم لمراقبة الأسواق والموازين ليمنع الغش والظلم، أما اليوم فهو شخص "يتهيأ له" أن الله عز وجل أوكل له مهمة إجبار الناس "أفرادا" "وجماعات" "ودول" على ما يراه هو حق ويمنعهم من ما يراه هو باطل، يعني أن إهدافه تتغير بتغير قناعاته والجميع مُلزم بهذه القناعات وينبغي علينا التغير تماشيا معها. سمى نفسه "محتسبا" لأنه يتبرع بإفساد الأنشطة التي لا يراها مناسبه وتقويم السلوك الذي لا يراه مقبولاً مجانًا محتسبًا الأجر عند الله.


فمثلاً لو ألقى شخص لا يرونه مناسبا محاضرة سيجتمع عدد من المحتسبين ويحاولون منع إقامة المحاضرة بكل الطرق الممكنة، سيذهبون جماعات إلى الديوان الملكي ويقدمون شكوى، وإن لم يتجاوب معهم الملك ينتقلون للمرحلة التالية، وهي حضور المحاضرة بهدف إفسادها. طليعة الكتيبة ستجلس في الصفوف الأولى ويقاطعون المحاضر محاولين تشويشه، وإن ابى أن يتشوش يبدأون بالاستغفار والذكر بصوت مرتفع، وكأن كارثة على وشك الحدوث. بعدها سيقف أحدهم محتجًا ومقاطعًا المحاضر، ثم يغادر القاعة غاضبًا، فيتبعه البقية واحدًا تلو الآخر حتى يصاب المحاضر بالذعر، متخيلاً أن جميع من في القاعة معترض على كلامه وأن جميعهم يغادرون وبأن محاضرته فشلت.


الجميل أننا تعودنا عليهم وأصبحت قصصهم مكان تندر حتى أن معرض الكتاب قد يصبح مملا بدونهم، فلا يسمع به أحد. في آخر معرض كتاب حصلت حوادث احتساب متنوعة هنا وهناك أبرزها الحادثة التي أطلق عليها لاحقاً "غزوة ذات التعايش".


غزوة ذات التعايش حصلت في ندوة بعنوان "الشباب والفنون دعوة للتعايش" وفي معرض الكتاب والذي كان شعاره هذه السنة "الكتاب تعايش" وكان الشعار مكتوبا بخط كبير على اللوح في مسرح الحدث ليزيد الموقف ظرافة.


أحد ضيوف الندوة الدكتور معجب الزهراني تحدث عن داعش وعن تحطيم آثار العراق قائلاً: "تخيلوا أن مثل هؤلاء الأشقياء يحطمون تماثيل هي ملك للإنسانية.. بعضها عمره 3000 سنة!" عندها تعالت صرخات عدد من المحتسبين الغيورين معترضين على انتقاد تحطيم التماثيل لأنها أصنام وتحطيمها واجب شرعي يؤجرون عليه. رد الدكتور الزهراني ساخرًا "طيب روحوا الحقوهم عشان تكسبون أجر!".


حدثت بعد ذلك ضجة تدخل على إثرها رجال الأمن وأُوقفت الندوة. عندها صعد أحدهم على المسرح بشكل مفاجىء ورفع الأذان بصوت عال في قفشة مميزة على الطريقة الإخوانية. سكتت الجموع منصتين إلى الأذان ثم كبر صاحبنا وصلى على مسرح الجريمة ليطهره وصلوا خلفه بالرغم من وجود مسجد في المنطقة.



يؤسفني أن الفن السينمائي عندنا (في السعودية) غير فعّال ولا متطور وإلا لكانت مثل هذه الحوادث مادة خصبة قد تُنتج أفلام عالمية بتكاليف منخفضة، فلا نحتاج إلى مؤثرات مكلفة كالسيول والزلازل أو ثعبان البركودا أو مركبات فضاء. فقط نحتاج إلى نص جيد عميق وكم بشت وصلى الله وبارك.