التوقيت الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024
التوقيت 03:22 ص , بتوقيت القاهرة

شرق أوسط جديد.. مرة أخرى!

سيكتب التاريخ يوما أن الثورة السورية هي أكثر الثورات سوءا للحظ في تاريخ ثورات الشعوب على حكامها الطغاة. ثورة في واحدة من أدق لحظات التحول في موقع ودور الشرق الأوسط كبنية جيوسياسية وفي علاقاتها بمحيطها.


ليس من باب التقاعس أن تترك إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما سوريا وشعبها، نهبًا لمسار القتل والجريمة تارة على يد النظام وحلفائه وطورا على يد الإرهاب، من دون تدخل حقيقي يذكر. فإدارة أوباما مهما ترددت، هي في العمق إدارة انسحاب الدور الأمريكي من هذا الشرق الأوسط.


والإدارة المنسحبة لن تُقدم على أكثر من إجراءات تجميلية أو مسؤوليات الحد الأدنى مهما تفاقمت بشاعة اللحظة الراهنة في المنطقة. وهذا خيار يتجاوز إدارة أوباما نفسها إلى كونه خيارا استراتيجيا كبيرا يعيد تعريف موقع ووظيفة الشرق الأوسط في السياسة الدولية على نحو يختلف جذريًا عن الموقع والدور الذي عرفته هذه البقعة الجيوسياسية لثلثي قرن تقريبًا.


لم تعد أمريكا معتمدة على نفط الشرق الأوسط لدعم رفاهية التجربة الاقتصادية الأمريكية، بل هي تقترب من الاكتفاء الذاتي أو أقل وتملك من الخيارات في الأسواق النفطية البديلة ما يكفي لسد حاجاتها.


كما لم تعد أمريكا قلقة على أمن إسرائيل. هاتان ركيزتان حكمتا السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط والتورط في وحوله، وما يصيبهما من تحول سيغير طبيعة العلاقة بين أمريكا والشرق الأوسط.


وبالتالي تتصرف إدارة أوباما على قاعدة أن آخر ملفين سينهيهما الرئيس قبل نهاية ولايته هما الاتفاق النووي مع إيران والاعتراف بالدولة الفلسطينية، وسيكون على كل اللاعبين التأقلم بعدها مع واقع جديد في الشرق الأوسط، وهو ما يفسر الكثير من أسباب التوتر الذي يصيب حلفاء واشنطن عربيا وإسرائيليًا.


وإذا كانت واشنطن تبطئ بعض الشيء في انعطافتها الاستراتيجية التاريخية، فلأنها تلمس تردد ورثة دورها في الشرق الأوسط في التقدم باتجاه تحمل مسؤوليات هذا الدور وتبعاته. فلا يكفي أنها تستقل واشنطن نفطيا باضطراد كي تقدم على خلق فراغات استراتيجية في الشرق الأوسط تطيح بأمن تدفق النفط الحيوي لسلامة الاقتصاد العالمي الحيوي بدوره لسلامة الاقتصاد الأمريكي.


أما الورثة، ورثة الدور الأمريكي، فهي عمارة استراتيجية جديدة قيد الولادة وأن بتعثر وتردد، تقوم على تحالفات وأدوار جديدة للصين وروسيا والخليج ومصر وتركيا وإسرائيل.


الإشارات على ذلك لا تفوت المراقبين. فها هو الرئيس الصيني شي جينبينغ يفتتح عصرا دبلوماسيا جديدا لبلاده في أزمات المنطقة من السودان وأفغانستان إلى القضية الفلسطينية. ولم تكن الزيارة الأولى إلى الصين لأشرف غني كرئيس لافغانستان، إلا دليلا بالغ الرمزية على تحول الأدوار والعناوين، في الوقت الذي  تعلن فيه بيجينغ عن عزمها رعاية مبادرة سلام في هذا البلد المعقد بعد رفضها ذلك لسنوات طويلة.


كما أن الصين تتمتع بعلاقات مميزة مع حركة طالبان تسمح لها بدور مختلف عن الدور الأمريكي. يضاف الى ذلك حجم الاستثمارات الصينية في أفغانستان وجوارها والذي يتجاوز مئات مليارات الدولارات تصب كلها في شراء حقوق استخراج المعادن وبناء السدود وتطوير بنية المواصلات وغيرها من القطاعات.


ومن المفارقات الرمزية لعلاقة الصين بالشرق الأوسط انتقال  الرئيس السوداني عمر البشير مطلع العام الجاري في ذكرى مقتل الحاكم العام البريطاني للسودان الجنرال تشارلز غوردن قبل 130 عاما، من قصر «غوردن باشا» إلى قصره «الصيني» الجديد في الخرطوم الذي شُيد بمنحة صينية كاملة تقدر بخمسين مليون دولار.


وتعتبر الصين أكبر مستثمر أجنبي في السودان، في النفط والزراعة والبنية التحتية، كما أن استثماراتها فيه تعد الأكبر على صعيد أفريقيا، حيث تعتمد الصين على السودان، كسادس أكبر مصدر للنفط ويحتل السودان المركز الثالث على صعيد القارة الأفريقية كأكبر شريك تجاري للصين بعد أنقولا وجنوب أفريقيا.


على جانب آخر تراقب موسكو باهتمام كبير تطورات التفاهم الإيراني الأمريكي على الملف النووي. وتعد روسيا الدولة الأكثر اهتماما وتأثرا بنتائج هذا التفاوض، وهو ما يدفعها إلى البحث عن تموضعات جديدة للسياسة الخارجية الروسية. ومن بين الأحداث التي سيتضح حجمها الاستراتيجي في الأشهر القليلة المقبلة هي زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى القاهرة، لا سيما أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يتهيأ لزيارة قريبة الى موسكو هي الثانية له كرئيس للجمهورية والثالثة منذ الإطاحة بنظام حسني مبارك.


أهمية الزيارة أنها تخفي وراءها إعادة تشكل للعلاقات الخليجية الروسية من خلال مصر ودعم دول مجلس التعاون لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات لعقود تسلح مصرية روسية ضخمة والتفاوض على شراكات استثمارية استراتيجية مع موسكو في مصر.


وليس خافيًا أن بوتين بدا في لقاءاته مع السيسي مهتمًا باستكشاف إمكانيات إنشاء قواعد بحرية روسية في الإسكندرية كبديل عن طرطوس السورية التي باتت تتسم بالرمزية أكثر من أي صفة عملانية جدية لها بالنسبة للبحرية الروسية.


كما أن موسكو ليست بعيدة عن عقد تفاهمات مع مصر في مواجهة النفوذ التركي في إطار معركة ترسيم حدود النفوذ في الشرّق الأوسط الجديد. وفي هذا السياق يأتي إعلان السيسي في تشرين الثاني الفائت عن حلف جديد يضم بلاده إلى اليونان وقبرص، لبحث مستقبل سوق الغاز في المتوسط، كما يشكل هذا التحالف الذي رحبت به موسكو واجهة لدور أكبر للكرملين في أمن حوض البحر المتوسط ونقطة تقاطع عملية بين مصر وروسيا في الملف الليبي.


وتأكيداً لذلك أعلن قبل أيام الرئيس القبرصي نكوس أنستادياس من موسكو أن روسيا ستستطيع استخدام قاعدة "أندرياس باباندريو" الجوية، وكذلك بإمكان السفن الحربية الروسية الدخول إلى ميناء "ليماسول" بصورة دائمة. على مهل يرتسم شرق أوسط جديد ويتقدم اللاعبون باتجاه أدوار وتحالفات معقدة سيمر وقت ربما يكون طويلاً قبل أن ترسو على عمارة استراتيجية واضحة لها سياقاتها وفهمها وآليات عملها، وسيكون لها تأثيرات عميقة على مسار الأزمات في الشرق الأوسط ومنها الأزمة السورية، التي عليها أن تنتظر.