التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 11:12 ص , بتوقيت القاهرة

أحكام أهل الذمة(5)

حين وصل قطار التاريخ بمصر إلى محطة المماليك، لم يكن شيء قد تغير، فكانت الشروط العمرية لاتزال دستورًا واجب النفاذ، رغم تعطيل الفاطميين لبنوده أغلب الأحيان. دستور لم يُستفتَ عليه قبطيٌّ واحد وتجرع به كل الأقباط كأس الذل. كانت الدولة تقوم بتعيين رؤساء الطوائف، وتحتم عليهم بعد تعيينهم الالتزام ببنود هذا الدستور، وإذا ما حدث طارئ حال دون تطبيق الشروط، أو ظرف تاريخي خفف من وطأتها، أسرعت سلطات الخلافة الإسلامية، بضغط من الفقهاء، إلى إصدار المراسيم لإذلال المصريين وأخذهم بالصَغَار.


وهذا ما حدث في عام 700 هجرية، في عهد محمد بن قلاوون، بحسب ما يفيدنا ابن كثير، حين يقول: «قُرئت شروط الذمة على أهل الذمة وأُلزموا بها واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، (أي طردهم من وظائفهم) وأخذوا بالصَغَار، ونودي بذلك في البلد، وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصفر.. فحصل بذلك خير كثير وتميزوا عن المسلمين».


ولا أحد يدري كيف يتأتى الخير في ظل هذا الذل والتصغير! وبعد عامين فقط من صدور المرسوم ظهرت نتائجه سريعًا، فحين هدم المسلمون بعض الكنائس، اشتعلت الفتنة الطائفية واندلعت الحرائق في أرجاء القاهرة، التي انتهى حالها إلى خراب كامل.


وكان تطبيق الشروط العمرية على الأقباط قد سبقه انتهاء المسلمين من ملاقاة التتار، وتفرغهم بعدها للمسيحيين، فخيّر الأمير ركن الدين بيبرس كاتب الحوائج بين الإسلام والطرد، فأسلم مجبرًا، كحال الآلاف، من أجل لقمة العيش. وأبطل احتفال المسيحيين بعيد لهم كان يسمى عصرئذ "عيد الشهيد". كان بمثابة يوم تروج فيه التجارة، وتنتعش الأسواق، فكان منعهم من الخروج والبيع والشراء كارثة، لا دينية فحسب، بل اقتصادية أيضًا.


وبينما الأقباط يلملمون جراح الفتن ويضمدون جروح الحرائق، ضرب مصر في العام نفسه، عام 702 هـ، زلزال عنيف، كانت أبرز نتائجه تدمير ما تبقى من القاهرة، وانهيار معظم دورها وجوامعها، كالجامع الأزهر وجامع عمرو بن العاص، وغيرهم كثير، بحسب ما يفيدنا المقريزي، ثم ضرب المدن الواقعة على شاطئ المتوسط إعصار أعنف، يتحدث عنه السيوطي فيقول: «طلع البحر إلى نصف البلد، وأخذ الحمال والرجال، وغرقت المراكب، وسقطت بمصر دور لا تحصى، وهلك تحت الردم خلق كثير».


العجيب في الأمر أن توالي المصائب بهذا التسلسل- الذي يعده الإسلاميون غضب من الله - لم يكن الأول ولا الأخير من نوعه، إذ يتحدث صاحب "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" عن حوادث عام 398 هـ فيقول: «هدم الحاكم الكنائس التي ببلاد مصر، ونادى: من لم يُسلم فليخرج من مملكتي، أو يلتزم بما أمر. ثم أمر بتعليق صلبان كبار على صدور النصارى، وزن الصليب أربعة أرطال.. وبتعليق خشبة على تمثال رأس عجل وزنها ستة أرطال في عنق إلىهود».


ولم يشأ العام أن ينصرم قبل أن تضرب السيول مصر، سيول وصفها السيوطي بالعظيمة!


ويتكرر الأمر عينه في عام 755 هـ حين صدر مرسوم بتجديد إلزام الأقباط بالزي المخالف، لتمييزهم عن المسلمين، وهو المرسوم الذي أعقبه سنة سبع وخمسين عاصفة عاتية أدت إلى غرق قرابة ثلاثمائة مركب في ميناء بولاق، واقتلعت من النخيل، والزرع شيئًا كثيرا. وكأن الكوارث والمصائب في كل عصر وحين لا تتأتى إلا مع الإسلاميين وسعيهم الحثيث لتطبيق ما يظنونه شريعة الله!  


ويبدو أن شكوى الأقباط وأناتهم كانت شغل الناس الشاغل عصرئذ، وهو الأمر الذي نجد صداه في فتواي ابن تيمية، الذي عاصر تلك الأحداث، وسأله بعضهم عن رأي: «السادة العلماء أئمة الدين، وهداة المسلمين.. في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها، التي أغلقت بأمر ولاة الأمور، إذ ادعى أهل الذمة: أنها غلّقت ظلمًا، وأنهم يستحقون فتحها.. ».


فجاء رد شيخ الإسلام حاسمًا قاطعًا يقول: «أما دعواهم أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها فهذا كذبٌ مخالفٌ لأهل العلم. فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من الأئمة، كسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد.. ومن قبلهم من الصحابة والتابعين، متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسةٍ بأرض العنوة كأرض مصر والسواد  بالعراق، وبر الشام ونحو ذلك.. لم يكن ذلك ظلماً منه؛ بل تجب طاعته.. وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم، كانوا ناقضين العهد، وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم».


وتستمر الشكوى وما من مجيب، ويتعالى صوت الأنين وما من طبيب، ويعرض المصريون في عام 709 هـ على السلطان محمد بن قلاوون أن يزيدوا الجزية بمقدار سبعمائة ألف درهم في السنة، مقابل أن يخفف عنهم بعض الشروط، وأن يرفع عنهم شيء من الذل والصغار، ويتركهم يلبسون ما يشاؤون، ويغريه المال الذي سيدخل خزائنه، فيجمع العلماء ويستشيرهم في الأمر، وكان ابن تيمية، الذي خرج من السجن لتوه، من ضمنهم، فأجاب السلطان بالقول: «حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية».


ويؤكد ابن تيمية على هذه المسألة فيقول: «الشروط على أهل الذمة حق لله، لا يجوز للسلطان ولا لغيره أن يأخذ منهم الجزية ويعاهدهم على المقام بدار الإسلام إلا إذا التزموها وإلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن».


وتتواصل مسيرة الإذلال، بحسب ما يرسمها لنا الإخباريون، إذ هدمت أغلب كنائس النصارى بمصر، ونهب الباقي منها في عام 721 هـ وبقيت القاهرة أيامًا لا يظهر فيها أحد من منهم، ويضيف السيوطي: «وبقي لا يظهر نصراني إلا ضربه العوام، وربما قتلوه».. ويزداد سعير الفتن الطائفية، ويحرق جامع ابن طولون والمنطقة التي حوله بأسرها، فيقبض على الفاعلين، ويقتل بعضهم ويحرق البعض الآخر.. وكعادتهم ينسب الإخباريون كل أحداث الفتن  للأقباط!


هذا كله رغم تأديتهم للجزية التي كانت تُدفع على الرؤوس بخلاف ضريبة المال والأرض والعقار التي تسمى "خراج". وكان المحتسب أو  العامل إذا جاء لأخذ الجزية «أقام المسيحي بين يديه، ثم لطمه بيده على صفحة عنقه، ويقول له: أد الجزية يا كافر»، إذ ذاك فقط يتوجب على المصري أن يخرج يده من جيبه مطبوقة على الجزية، فيعطيها له بذلة وانكسار.


وفقهيًا يتوجب على المُحتسب، وقت تحصيل الجزية، أن يُذّكر الذميّ بالتزام أحكام الإسلام، فإن امتنع من لزوم الأحكام انتقضت ذمته، وقتل في الحال، بيد أن القتل لا يقع على ناقض الأحكام فحسب، إذ قد يكون جزاء الملتزمين والمحسنين على الفقراء والموسرين من أتباع أي دين، وهو الأمر الذي حدث بالفعل سنة 666 هـ مع أحد الرهبان، الذي كان يسكن القفار في حلوان، وكان قد وقع على مال طائل، «فواسى منه الفقراء والمستورين من كل ملة، واشتهر أمره وشاع ذكره، وأنفق في ثلاث سنين أموالًا عظيمة.. فأحضره السلطان.. وبسط عليه العذاب، فمات».


وكالعادة؛ كان الفقه أيضًا هناك، وكانت فتاوى علماء المسلمين بضرورة القتل حاضرة، يتحدث عنها الإمام الذهبي فيقول: «وقد أفتى غير واحد بقتله». لماذا يا شخنا ويا عالمنا؟ «خوفًا على ضعفاء الإيمان من المسلمين أن يضلهم ويغويهم». ولا حول ولا قوة إلا بالله! 


للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك


المصادر: 
ابن كثير. البداية والنهاية. المجلد الرابع عشر. صـ 16 
المقريزي. السلوك لمعرفة دول الملوك. الجزء الثاني. صـ 326 وما بعدها. 
ابن تيمية. مجموع الفتاوي. الجزء 28 بداية من صـ 634 وما بعدها. ومسألة في الكنائس صـ 101 و 102
السيوطي. حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة. المجلد الثاني. صـ  282 صـ 296 - 297  صـ 299 صـ 301 
جلال الدين العدوي الشيزري. نهاية الرتبة. صـ 107
ابن الأخوة. معالم القربة. صـ 45