دواعش الجامع والجامعة
لم يكن غريبا على أعيننا مشاهدة مقطع فيدو لأفراد تنظيم داعش في مدينة الموصل العراقية، أثناء تدميرهم لتماثيل ومقتنيات متحفها، فالفعل ليس صادما سوى في جزئية المشاهدة المباشرة لأفراد لا مانع لديهم فى سحق كل ما تركه الآخرون، قديما أو حديثا، وسحق كل منجزات الحضارة الإنسانية، التي اعتدنا وجودها، وفهمنا بعضا من سيرتها، ومراحل تطورها وقيمتها التاريخية والثقافية والإنسانية.
شعور من يرى أن كل ما ورثه أو صنعه أو تركه، يُمكن لأصدقاء هؤلاء بالداخل أن يدمروه دون طرفة عين واحدة.
وسواء كان ما حدث حقيقيا وتم تدمير الآثار الأشورية بالفعل، أو أن ما جرى كان مجرد تمويه، تم خلاله بالفعل تدمير نماذج محاكاة للتماثيل والتحف الفنية الموجودة بالمتحف، بعد تهريب وبيع التحف الأصلية لدول غربية، كما رجحت بعض وجهات النظر، ففي الحالتين كان الإسلاميون هم معول تخريب وتجريف الحضارات الإقليمية والوطنية ببلدانهم، وما لم يًدمّر بالقذائف، تم تحطيمه بالمطارق.
فالحضارة لديهم هي عنصر مكمل، إكسسوارات يُمكن ذكرها على هوامش الحضارة الأصلية، حضارة مخطوطات الفقه المحرِّم للحضارات، أو ما يُمكن تسميته بحضارة لعن الحضارات.. ومظاهر هذه الحضارات يُمكن الاستغناء عنها، بل ويُفضل ذلك، كي لا يشعروا بهوان ثقافتهم الجرداء فقيرة الروح والعقل، أمام من فاقهم أو سبقهم في ابتكار الأفكار والبناء والتمدن.
المخرّب الأصولي هنا يحركه الشعور بالضآلة والحقد قبل أي دافع آخر.
الفعل له تمهيد ممنهج في الثقافة والبيئة العربية والإسلامية، وله استلهام تراثي قديم، تم التأكيد عليه مرارا من خلال أدبيات ما سُمي بالصحوة الإسلامية، ولدينا فتاوى عديدة مكتوبة ومنطوقة ومرئية لمشايخ السلفية تحرم الآثار أو تحتقرها أو تزرع فكرة مخاصمتها ومخاصمة صانعيها وغرس القطيعة بين الحفدة والأجداد، وأن الخلاص منها أفضل من وجودها، كي يخلو لهم وجه البلاد غفلٌ من أية سوابق، يسطرون فيها ما يشاءون من ثقافة المخاصمة والعداء، فما هو ليس فى القرآن لا حاجة لنا به، وما هو بالقرآن لا حاجة لنا بغيره.
فالشيخ السلفى عبد المنعم الشحات حينما وصف الحضارة المصرية القديمة بالعفنة، لم يكن يفعل سوى تمهيد التربة للدواعش، فالعفن لا يترك على حاله لضرره، ولا يحتاج سوى لإزالة سيقوم بها بعض الثائرين أصحاب القضايا العظمى التي تروج بيننا ألفاظ الأمة/ الخلافة/ الثورة/ الدين/ الطاغوت.
والشيخ محمد حسان سبق له الفتوى عام 2010 بأن التماثيل الذهبية "لُقية" و"ركاز" يحق لك أخي المواطن الشريف إخفاؤها وتشويه وجهها ثم بيعها، على قناة الرحمة الفضائية، ثم عاد بعد أيام، ومارس تقية الإنكار لما قاله مسجلا بالصوت والصورة، فيما يبدو بعد قرصة أذن لطيفة، أنه لم يقصد ما قال، وأن الآثار ثروة وطنية ملك للدولة!
وبشكل عام لم يكن مشهد تدمير الدواعش لمتحف الموصل ببعيد، عن تدمير سابقه بمتحف الفن الإسلامى بباب الخلق بالقاهرة في ذكرى ثورة يناير 2014 ضمن حادث تفجير مديرية أمن القاهرة، ولا اقتحام وتدمير وسرقة محتويات متحف ملوي عقب فض اعتصام رابعة في أغسطس 2014، بيد عناصر الإخوان والسلفيين، ولا حرق المجمع العلمي أو سرقة بنك الجينات الزراعية، ولا اقتحام المتحف المصري بالتحرير، مساء 28 يناير الأسود 2011، وسرقة وتدمير بعض محتوياته..
ولم تكن مشاهد تماثيل جنود الفراعنة الخشبية الملقاة على أرض المتحف خارج خزانتها الزجاجية مجرد صورة رمزية، بل كانت خط الدفاع الأول، وأول من تلقى الضربة، وأول شهداء الدفاع عن الحضارة الوطنية، التي وقفت تتصدى لزحف رعاع التأسلم المتدثرة بإزار مدني، فهذه الحضارة محط الهجوم، هي بالفعل الهدف الأسمى لدواعش الوطن وأعداء الخارج، وهي ما إذا تم مسخها تماما، صارت مهمة التدعيش أكثر سهولة.
فالإسلامي في العموم يتعامل مع حضارة الوطن كرهينة تحت رحمته، يهدد دوما بإشعالها أو بتدمير كنوزها أو بترويع الأقليات الدينية، للضغط على السلطة أو لإيلام أصحاب الوطن الأصليين، الذين يتألمون لتراثهم.
لذلك فكل ما يصدر عن هؤلاء من منطوقات فقهية مراوغة كذوبة، تحمل قبول للمختلف عنه على مضض، وبتخريجات فقهية ممتعضة، يشعرك من خلالها أنه يتكرم عليك بقبول ثقافتك وتراثك، وأنه موكل بحمايته مقابل ابتعادك عن الفعل وجلوسك في الظل كرعية أو كذميّ، وفى ذات الوقت يسن أنيابه، حتى تمام التمكين الذى يتيح له تحطيم كل شيء.
اتضح هذا بجلاء فوق منصة رابعة، في تهديدات زعمائهم الذين طالما روجوا خطابات "تقية" عن حماية الأقليات، فلما اهتز عرشهم، أرسل صفوت حجازي على سبيل المثال، تهديدات سافرة إلى الكنيسة المصرية وقياداتها وللأقباط تهديدات صريحة.
هذا الارتباك والاصطناع والتقية، له تأصيل آخر أكثر سخفا داخل دور العلم، فعند مطالعتك لرسائل الماجستير والدكتوراه، بأقسام الفنون والآثار بالجامعات المصرية، ستجد بابا ثابتا أو فصلا تمهيديا بمدخل العديد منها، بعنوان "موقف الإسلام من الفنون" يتناول فيه المؤلف فصلا دينيا، يحاول من خلاله، عرض الآراء الفقهية والآيات والأحاديث، التي تناولت المباح والمحرم فيما يتعلق بالصور والرسوم والنحت والمجسمات، ومحاولة الميل بدرجة أو بأخرى بحسب شخصية الباحث، نحو إباحة الفنون أو رفضها أو الظهور بمظهر الحيادي المستبرئ لدينه.
الباحث هنا يدخل مضمار العلم متشككا في جدواه وقيمته ابتداءً، وقبل أن يسطر حرفا علميا واحدا.
هذا الباحث أو الأستاذ الجامعى فيما بعد، لم يكن دوره توعويا ثقافيا، بل كان دوره بدرجات متفاوتة، استكمال زحف الشارع بثقافة خطب التطرف نحو معاداة التراث والحضارة، فالذي لم يُبَع بالمال، يمكن احتقاره بالعلم.
وكثير من هؤلاء يتعاملون مع الحضارة كمنهج دراسي ومصدر رزق، وينقلون الشك والحيرة ومخاصمة التاريخ والجذور، وغياب المبدأ واليقين لطلابهم، داخل قاعات المحاضرات، وهو عكس ما يتم ذكره من عبارات بليغة، فى سطور كتبهم التي تحمل أسماءهم..
هؤلاء الطلاب يتخرجون ومنهم من يلتحق بعمل، يصبح من خلاله موكلا بحفظ هذه الحضارة، وبكل التشويش الفكري، واضطراب الرؤية الذي ناله، يسهل استمالته لجانب خصوم الحضارة، فيصبح حارسا غير أمين لها.
بالطبع هناك مخلصون ومثقفون وراسخون بالجامعات، لكن هناك أيضا تشويش واضطراب يتم غرسه بالأفهام، حتى أن هناك بعض أساتذة للموسيقى ينقلون لطلبتهم أنهم لا يمكن أن يتربحوا من العزف، كونه حراما، وأنهم يكتفون فقط بتدريس علوم الموسيقى، ووجوهم تقطر أسى.
مقدمات التدعيش والدعشنة، انطلقت من دور العبادة ودور العلم، وهما المكانين اللذين يتميزان بطابع الخطابة، ووجود مُرسِل واحد وعدة متلقين مصائرهم معلقة برأيه، قبل أن يظهر فى المشهد فضاء الإنترنت والتواصل الاجتماعى, فسبق الدواعش بنقل المعركة إلى هناك، محاولين قدر الإمكان الحفاظ على بقاء المعادلة كما هى بالعالم الواقعي.