الأمة المصرية في محطة الإحياء
أنت بالتأكيد تعرفُ مثلي، معنى أن تكون منتسبًا إلى حضارةٍ ضاربة في دورة الوجود، عُمرها المُسجل آلاف السنوات. أنت بالتأكيد تعرف معنى كلمة حضارة، وتعرف اشتقاقاتها الدلالية؛ حضارة.. يتحضَّر.. مٌتحضِّر CIVILIZED .
أنت بالتأكيد تعرف هذا وأكثر، وتردد بينك وبين نفسك، لا داعي لكاتب المقال أن يتعالم ويتثاقف ويتعالى ويستعرض علينا، نفس الأناشيد المدرسية الممجوجة، التي رَخُصت من فرط ما تاجرت بها الأغاني، ولاكها الانتهازيون في أحاديثهم كاللبان، كلما همُّوا بابتزاز واستنزاف هذا الوطن العظيم.
يقيني أنه لا توجد لفظة في المعجم، يمكن للطبيب أن يكتبها في روشتته، بعد تشخيص حالة المجتمع سوى كلمة "حضارة". نحن في أشد احتياج لاستدعاء مخزوننا الحضاري والقيمي، في هذا الوقت الصعب الذي تمر به الأمة المصرية، أعني بالمخزون الحضاري، تلك الطاقة الدافعة للبناء، التي تحلّى بها أجدادنا دون أن يلتفتوا إلى الصغائر، وهم في رحلتهم لصنع حضارة، ما زال العالم المتحضر يقتات من شذراتها. كان المصري القديم يبني ويزرع ويُعلم ويُهذب في نفس الوقت.
سيُصيبك العجب وأنت تقرأ وصايا الحكيم أمينئوبي، أو شكاوى الفلاح الفصيح، أو نقوش كهنة آمون لتعرف كيف سبق أجدادنا الدنيا، ليس فقط في البناء وغرس الفسائل، ولكن في السبق بتعليم العالم معنى التمدن، وقيمة الإنسان، واحترام الوجود الإنساني وتكريمه. وهي أشياء للأسف تخلو منها المقررات المدرسية لأولادنا الذين يدرسون فقط تاريخًا من الغزو والسبي والبطولات الزائفة للغزاة من كل فلاة وسقيفة.
تعاقب علينا الغزاة رومان وفرس وأعراب، كٌل حاول بطريقته، طمس شيء اسمه الهُوية المصرية، وتذويب هذه البصمة الحضارية، التي شكّلت مصريتنا، وجعلت منها شارة جينية وهوية IDENTITY تجري مع الدورة الدموية للإنسان المصري، من هذه الهوية، تتشكل نظرته للحياة وللآخر، ومنها تتكون مُحفزاته على العمل والتفرد، دون عنصرية أو شوفينية بغيضة، أو ادعاء خيرية في غير موضعها.
واقع الحال يشي بأن هذه الهوية قد توارت، ولم يعد تأثيرها حاضرًا في الممارسة الحياتية للمصريين خلال الخمسين عاما المنقضية من عُمر وطننا، وأن الشخصية المصرية قد انسحقت لبعض الوقت أمام موجات المد الأصولي الذي جرًّف جوهر الشخصية المصرية، وحولها إلى مجرد حاضنة دينية، غارقة في ماضويتها وانكفائها على المتون والشروح والتأويلات للعصور الوسطى، واعتماد المعتقد الديني كنافذة وحيدة لرؤيتنا لأنفسنا وللآخر، بفعل تبدل مراكز التأثير الثقافي في منطقتنا، من مراكزها الثقافية التقليدية كالقاهرة وبيروت إلى مراكز جديدة أكثر محافظة وانغلاقًا في الجوار الخليجي، بعد فورة البترول في بدايات سبعينات القرن الماضي.
توالت موجات الهجرة للعمالة المصرية إلى منابع النفط، لتعود مُحَمّلة بثقافة وأفكار وهابية وسلفية جرفت في طريقها كل مكتسبات الإحياء المصري، الذي بدأ مع محمد علي وأولاده.
ليس صعبًا أن نلمح التغيير الاجتماعي وقد ترك آثاره على ثقافتنا وفنوننا وملبسنا، ووضعية المرأة المصرية، وطريقة تعاطينا مع العلم والفنون، واختزال وتفسير كل الأمور بشكل ديني منغلق، ومن ثم سيادة مفهوم شكلانية العبادات على مفهوم الممارسة الفعلية للمعاملات. بيد أن التأثير الأكبر كان الضرر الكبير للقوة الناعمة للثقافة المصرية، التي تلاشت لصالح أفكار ابن تيمية وتأويلات ابن الجوزي وتفسيرات ابن كثير لتنسحق الشخصية المصرية أكثر وأكثر داخل شرنقة المُعتقد والأيديولجيا الدينية.
المدهش أنه مع سيادة نموذج المجتمع المُنغلق، الذي يستمد تفسيراته من كل ما هو ديني محض، بدءًا من تعامله مع البنوك، ومرورًا بملبس المرأة، وانتهاء بكيف يدخل الإنسان دورة المياه، أو ما يسمى في الأدبيات الأصولية بالخلاء. مع كل هذا حدث تراجع قيمي وأخلاقي حاد في المجتمع بشكل عام كان من تجلياته، تزايد معدلات الجريمة والتحرش والعنف المجتمعي على مستوى الأسرة والشارع والتعاملات اليومية.
الأكثر إدهاشاً أن تلك الآثار الفادحة للتراجع القيمي، مثلت ظواهر لم تكن موجودة بالمجتمع المصري في ذروة انفتاحه على العالم في الثلاثينات وحتى نهاية الخمسينات من القرن الماضي، في ظل تنوع لموزاييك إثني جعل من القاهرة والإسكندرية وعواصم المحافظات حواضر كوزموبوليتانية يعيش فيها المصريون، مسلمين ومسيحيين ويهود وأرمن وشركس وأتراك ويونانيين وشوام، مع حرية عقيدة تواكبها حرية للنشاط الاقتصادي والتفاعل الاجتماعي، كانت عواصم أوروبية تحسد مصر على هذا التنوع الفريد، وهو النموذج الذي استلهمته إمارة دبي بعد ذلك بعقود، باستقطابها لكل الجنسيات للاستثمار والعمل والعيش دون قيود.
لا عاصم لمصر اليوم إلاًّ بالعودة إلى مخزونها الحضاريّ، وأن تستعيد الذاكرة الحضارية المصرية، وأن يؤمن المصري بذاته وبقدرته على التغيير من نفسه أولاً ومن مجتمعه ثانيًا اتكاءً على ميراث قديم من التجذر الحضاري، وهوية لم توجد في هذه الجغرافيا عبثًا، وإنما وُجدت لتفعل وتؤثر في محيطها المتوسطى والإفريقي والعربي.
لا بد من إعادة النظر في نظامنا التعليمي، وإحياء فكرة الأمة المصرية في الوعي الجمعي لأبنائنا، لا بد من التوقف عن حشو العقول بالفكر الغيبي والتدين السلبي، الذي يُوقف عجلة الحياة، ويخدر العقول ويجعلنا مجرد أمة واقفة على رصيف العالم بانتظار محطة الموت، لا مكان للتأويل الديني إلاًّ بوصفه مُحفزا قيميا وأخلاقيا في النفوس العامرة بالإيمان المتطلعة إلى السلام الروحي، المؤمنة بأن الدين، أي دين، هو علاقة بين خالق ومخلوق، بين إله تسامى وعلا في ملكوته، وفرد ما أُوجد إلاًّ لإعمار الدنيا وغرس فسائله في أرجائها، والعمل بإخلاص لترك توقعيه على دفتر حركة الكون بالإسهام والإبداع والتطوير.
علينا أن نتذكر دائما أن العالم بضع عائلات كبيرة، ذات أصول عريقة، وأن تلك العائلات هي الحضارات الكبرى، التي أسست لكل تطور على هذا الكوكب، كالهند والصين والإغريق والرومان والأنجلوساكسون وفي القلب منهم الحضارة المصرية القديمة، حضارة الأعمال الكبرى، والأفكار الكبرى عن الحياة والبعث والخلود. العائلات الأصيلة قد تتعثر، وقد تعاني وقد تمرض، لكنّها تبقى أصيلة يتوارث أبناؤها نبل أصلهم الذي يدفعهم دوما إلى النهوض والإحياء، العائلات الكبيرة لا تموت والأمة المصرية قد تمرض وتصيبها عوارض الدهر لكنّها أبدا لا تموت.