عثمان رجل تقي وحاكم ضعيف
عثمان بن عفان كان رجلا تقيا، كريما، رقيق القلب.. لكنه لم يكن حاكما سياسيا صالحا. ووقع في أخطاء كبيرة، كتبها التاريخ، ونقلتها كل كتب التراث دون إخفاء أو مجاملة.. عثمان جامل أقاربه في الأموال والولايات، وعين على الناس من ليس كفأً، حتى انتشر الظلم والفساد وضجت الجماهير بالشكوى.
ذكر ذلك ابن قتيبة في الإمامة والسياسة، بل ذكره ابن تيمية نفسه في منهاج السنة رغم أنه تأول لعثمان وقال إنه تاب عن معصيته.
ولكن المجتمع الإسلامي المحيط به هو أول من رفض ذلك، وانخرط كبار الصحابة في المعارضة وإرسال الرسائل إلى الناس عبر المدن والبلدان أن يأتوا ليحتجوا على الخليفة، ويثوروا عليه، لما حدث من تبديل وظلم وحيد عن سيرة الرسول وخليفتيه، وتحول الأمر إلى ملك عضود.
تعلموا أولا أن نظام الخلافة ليس نظاما مقدسا لا يجوز نقده أو الخروج عليه. بل هو ممارسة بشرية قابلة للنقد والتقويم والتعديل.
وتعلموا أن البشر مهما بلغت مرتبتهم الدينية وقربتهم من بيت النبوة ليسوا أعلى من اتباع الحق. وأن قداسة المبادئ تفوق قداسة البشر.
وتعلموا الحرية والحراك الشعبي والرد على الحكام.. في زمن كانت الشعوب تساق ذليلة بالسياط كأنها حيوانات بلا قرار أو إرادة.
ثم حدثت بعد ذلك فتنة كبرى نشبت على إثرها حرب بين المسلمين، وأنتجت فظائع وويلات. لم يكن ينقصهم الدين أو العبادة أو تلاوة القرآن أو صلاة الجماعة أو حتى تطبيق الحدود، بل نقصتهم الخبرة السياسية وحسن الادارة واحترام الاختلاف والتخلي عن الطمع والاستبداد بالرأي وحب السلطة.
لكن..
هذا المجتمع الحيوي الذي تعلم بوادر المساواة وحرية التعبير وثقافة النقد واعلاء المبادئ على الأشخاص. وابتغاء الحسنى في القول والعمل. والحث على اتباع الحق. هو الذي صنع حضارة وثقافة عربية دامت سبعة قرون. وهو الذي مكنها من الانتصار في المعارك الحربية والثقافية والحضارية والانتشار غربا وشرقا.
أيضا..
حكاوي هؤلاء هي حكاوي إنسانية قابلة للأخذ والترك. الصواب والخطأ. وندرسها ليس على سبيل الإلزام أو القداسة. بل على سبيل التعلم وأخذ عظة التاريخ وعدم تكرار المآسي.. والعودة إلى نقطة بناءة في هذا التاريخ، ثم البناء عليها واستلهام أفضل ما فيها وجعلها بشارة لحاضر أفضل. وحتى لا ننحط إلى ما خلفها.
فأحيانا يهبط البشر بحاضرهم إلى درجة أكثر تخلفا من ماضيهم الذي ينتمون له.
وأول من أعمل مبدأ النقد في الرجال من حوله هو النبي (ص) عندما لم يجامل أصحابه وقال لهم بوضوح حين اختلفوا فيما بينهم وكادوا أن يتقاتلوا: "ما بال دعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم" .. وقال لأبي ذر عندما شتم رجلا وعيره بأمه "إنك رجل فيك جاهلية".
والقرآن نفسه لم يجامل هذا الجيل الأول، ولم يضع قداسة للبشر، أيا كان فضلهم، في مرتبة أعلى من الحق، وجعل كل حقبة تاريخية تحتاج الى النقد والتقويم، وقال فيهم (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) وفي آية أخرى (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) ولم يعصمهم من فتن الشيطان فيقول (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)
والصحابة نفسهم مارسوا حق النقد مع بعضهم، ولم تمنعهم قربتهم من النبي من التمييز بين الحق والضلالة.. فعمار بن ياسر في معركة الجمل التي خرجت فيها عائشة زوج النبي لمحاربة علي، يقر أنها كانت على باطل ومتعجلة في حكمها، وقال للناس من حوله "إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم ليعمل إياه تطيعون أم هي".
وعائشة في موضع آخر تقول عن سعد بن عبادة "كان رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية" _صحيح مسلم. وذلك عندما رفض بيعة أبي بكر واعتبرها صراعا قبليا وعرقيا بين المهاجرين والانصار.
يقول الله في القرآن (لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله) وموضع نزول الاية كانت حينما أراد المسلمين منع بعض المشركين من دخول مكة عقابا لهم لما فعله مشركي مكة بهم.. فنزلت الآية، لا يدفعكم شنآن ، أي ظلم ، قوم على أن تحيدوا عن العدل.. فالعدل واجب عليك ولو كنت مظلوما. ولا تستغله للانتقام والثأر لشخصك.
هكذا القرآن. وهكذا هو التاريخ الذي يجب أن نقرأه.