التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 02:10 م , بتوقيت القاهرة

البندقية والبرج والنووي.. ودهاء السيسي!

يوم الاثنين 9 فبراير توقف المرور أو كاد على كوبري قصر النيل.. سائق التاكسي سأل زميله من النافذة فيه إيه! رد الآخر بوتين في الأوبرا.. وجاء صوت ثالث من سيارة أخرى يصحح قائلا: الريس السيسي في البرج.. وصباحا عرفنا أن الرئيسين السيسى وبوتين ذهبا للأوبرا ثم تناولا العشاء فى مطعم البرج الدوار الذي يرى الجالس فيه القاهرة بمعالمها.


قلت لنفسي إن الرئيس السيسي "كيّاد" وذكي.. أما الكيد أو "الفرسة" كما نقول بالعامية، فكانت رسالته لأوباما عندما تناول عشاءه فى برج القاهرة الذي بنته مصر بأموال المخابرات المركزية الأمريكية.. البرج طوله 187 مترا وهو أعلى مبنى في القاهرة، وتم البدء في بنائه عام 1958 في عهد الرئيسين عبد الناصر وأيزنهاور.. فقد أرسلت السي آي إيه مبلغ 6 ملايين جنيه كاش إلى عبد الناصر ليتوقف عن دعم الثوار الجزائريين فى حرب الاستقلال.


ساعتها صمم عبدالناصر على فضح أمريكا وبنى البرج في أربعة أعوام، وقال هذه ثاني " لأ " أقولها للولايات المتحدة.. وسأجعل البرج أمام السفارة الأمريكية ليراه الأمريكيون، ويعرفوا أن مصر لا تُباع ولا تشترى.. وكانت الـ " لأ " الأولى عندما رفض البنك الدولى تمويل بناء السد العالي،  فأمم عبد الناصر قناة السويس وحصلت روسيا على حق بناء السد العالى.


أراد الرئيس السيسي أن يبعث برسالة جديدة إلى أوباما يقول فيها إن مصر لا تنسى أصدقاءها، ولا تتنازل عن استقلال قرارها ولا تقبل شروطا.. الرفض الذي أرسله ناصر إلى أمريكا، بعث بمثله السيسي في الاستقبالات والحفاوة التي قوبل بها الرئيس الروسي بوتين في زيارته للقاهرة، ليؤكد لصناع القرار فى "واشنطن"، أنهم ليسوا القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأن رضاءهم أو غضبهم على مصر أو غيرها لم يعد يجدي فتيلا.


عالم اليوم متعدد الأقطاب لا يحتكر فيه النفوذ أحد مهما كان.. كانت هذه الزيارة للبرج أول رسائل السيسي للولايات المتحدة.. أما الثانية فكانت البندقية الكلاشنكوف الروسيية الصنع التي أهداها الرئيس المصري لبوتين في إشارة إلى أن القوات المسلحة المصرية استخدمت السلاح الروسي في حرب أكتوبر المجيدة 1973، وانتصرت به على السلاح الأمريكي فى يد العدو الإسرائيلي.


 إذن لا فرق عند مصر أن تمنع "واشنطن" أسلحة أو قطع غيار أو طائرات عن القاهرة للضغط عليها.. فالبدائل موجودة فى السوق العالمية سواء روسيا أو فرنسا أو الصين أو غيرها.. كانت هذه هي الرسالة الثانية الهامة التي أرادها السيسى ردا على استقبال واشنطن لوفد من الإخوان المسلمين، وإجراء محادثات معهم في وقت يقتلون فيه المصريين ويروعونهم، ويعيثون فسادا وحرقا وقتلا فى جنود الجيش والشرطة بسيناء.


زيارة بوتين للقاهرة حملت الكثير من الرسائل لأمريكا وغيرها من الدول بأنه لا وصاية على القرار المصري في الشأن الداخلي أو الخارجي .. بل أن السيسي نفسه أرسل رسالة مهذبة لبوتين عندما دعاه إلى حفل بالأوبرا، تأكيدا على أن مصر كانت أول دولة عرفت فن الأوبرا فى المنطقة.. مثلما تتمتع الأوبرا الروسية وباليه البولشوي بسمعة عالمية.. مصر دولة حضارة وتاريخ.. ثقافتها وفنها وقوتها الناعمة هي التى أسقطت " عمامة " الإخوان الذين أرادوا حكم مصر بالحديد والنار تحت ستار الدين.


اّخر رسائل السيسي كانت إقامة المحطة النووية بالضبعة بالخبرة الروسية وبالأمر المباشر، مؤكدا بهذا القرار أن القاهرة لها كل الحق فى الاختيار، وترفض أى إجبار أو مساومة على شؤونها الداخلية أو مصالحها الذاتية.


من جانبه كانت رسائل بوتين للعالم ولأمريكا في منتهى الأهمية أيضا.. فقرار إنشاء منطقة تجارية حرة مع مصر وأن يكون التعامل بالجنيه المصري والروبل الروسي، هو كسر لقيود الدولار واليورو وغيرها التي فرضها الغرب وواشنطن على الدول النامية لتظل عملاتها كسيحة ومرتبطة به فقط.


 هذا التعامل سيزيد من تدفق السياح الروس لمصر ويحقق قفزة نوعية للصناعة المصرية، خصوصا في المنطقة الصناعية الجديدة بدمياط .. رسالة روسية قوية للأمريكان.. ولعلنا نتذكر أن واشنطن رفضت إقامة منطقة تجارية حرة مع مصر، وفضلت دولا عربية أخرى عليها واستبعدت إقامة منطقة صناعية كذلك. 


الرئيس الروسي بعث أيضا برسالة أخرى لا تقل أهمية لواشنطن والاتحاد الأوروبي، اللذين فرضا عقوبات اقتصادية على روسيا عقب أحداث أوكرانيا لإضعاف الاقتصاد الروسي.. لكن قرار موسكو ببيع الغاز المسال لمصر جاء تحديا للعقوبات الاقتصادية وإنقاذا لأزمة الطاقة المصرية التى يعانى منها المصريون صيفا وشتاء. هذا الغاز المسال كفيل بإعادة تشغيل محطات الكهرباء التى توقفت عن العمل لعدم وجود وقود.


من الرسائل الهامة أيضا الاتفاق على وحدة الأراضي الليبية التي تُمثل العمق الاستراتيجي لمصر وتوحيد جهود مصر وروسيا فى مواجهة إرهاب داعش والمتأسلمين سواء ليبيا أو غيرها.


الاتفاق على حل للأزمة السورية وحصول السفن الحربية والتجارية الروسية على تسهيلات بحرية فى الموانئ المصرية، يجيء تعويضا لها عن الموانئ السورية التى توقف العمل بها نتيجة لاشتعال الموقف فى سوريا واستيلاء داعش والمعارضة السورية على أجزاء كبيرة من الشام، الأمر الذي أخرج نظام الحكم عن السيطرة فى هذه الأنحاء.. زيارة هامة حبلى بالرسائل المتبادلة بين مصر وروسيا من ناحية وأمريكا من ناحية أخرى.. ولا يبقى إلا أن ننتظر رد فعل الأمريكي على تلك اللغة القوية التى تحدث بها الرئيسان بوتين والسيسي.