مدّ أبو حنيفة رجليه
محمود ابراهيم
الأحد، 15 فبراير 2015 04:57 ص
<p>كان الإمام أبو حنيفة يجلس مع طلابه مادّاً رجليه لألم في ركبته، وقد أستأذنهم لذلك. وفي يومٍ، وبينما هو جالس في المسجد يُلقي درسه، وهو مادّاً رجليه كالعادة، دخل شخص تظهر عليه علامات الوقار والعلم وله لحية كثة عظيمة. فما كان من أبو حنيفة إلا أن طوى رجليه وجلس معتدلاً أمام الشيخ الجليل.</p><p>اعتدل وأكمل درسه، وقد كان عن وقت صلاة الفجر، والطلبة يكتبون والضيف الوقور يُراقب بصمت ثم تحدث فجأة دون سابق إنذار وقال: يا أبا حنيفة إني سائلك فأجبني! انتبه أبو حنيفة وقال: تفضل واسأل. فقال الضيف: أجبني إن كنت عالما يُتَّكل عليه في الفتوى، متى يُفطر الصائم؟ توجس أبو حنيفة من السؤال البسيط ظانا أنه يحمل عمقا سيتضح له وللجميع لاحقا، فأجاب بحذر: يُفطر إذا غربت الشمس. فقال الضيف: وإذا لم تغرب شمس ذلك اليوم يا أبا حنيفة فمتى يُفطر الصائم؟! عندها علق أبو حنيفة بقولته الشهيرة: آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه.</p><p> مدّ أبو حنيفة رجليه، حين تبين له أن الرجل أحمق، وليس كما يبدو عليه من مظهره. المظهر خدع أبو حنيفة وجعله يحترم الشخص ويتكلف بطي رجليه وتحمل ألم ركبتيه، ولكن حين اكتشف أن الشخص فارغ زال الاحترام وفُرِدت الرجل المطوية.</p><p> مقولة أبو حنيفة هذه مشهورة ويستخدمها العديد من الناس للاستهانة بالشخص المقابل وللإشارة إلى أنه فارغ من الداخل، ولا يستحق الاحترام وليس كما يبدو في الظاهر.</p><p>قرأت في مدونة "مُشاهد" للأستاذ زهير الغامدي تعليقا غير تقليدي على الحادثة، يتساءل فيها <span style="color:#FF0000;">هل أخطأ أبو حنيفة في مد قدميه؟!</span></p><p> يقول زهير إنه كان على أبو حنيفة أن لا يستهين بهذا السؤال؛ لأنه سؤال وجيه لأن الشمس أحيانا لا تغرب في بعض البلدان كما في القطب الشمالي. إذا هو سؤال وجيه كما يقول زهير "بغض النظر إن كان ذلك الرجل على علم بتلك المعلومة من عدمه".</p><p>ثم برر زهير بلغة مرتجفة ملاحظته هذه قائلاً: "ربما يجب علينا الإقرار بأن العلماء الأفاضل من العصور الإسلامية المتقدمة، ليسوا على العلم المُطلق الذي لا يقبل التفكير والتحليل والتدبر، وربما المخالفة مع تطور العلم واطراد المعرفة، حتى أصبحنا نعرف في ثوان ما كان العالم يمضي السنوات الطوال في البحث والجمع والتدوين."</p><p> طبعًا خاف الزهير وبرر انتقاده لحادثة رجلي أبي حنيفة، وحق له أن يخاف ويبرر. قد يستفز كلامه واحدا ممن عينوا أنفسهم حماةً للدين ويكفره أو يسلط عليه الرعاع فيقتلوه أو يطلقوا منه زوجة.. أظنني بالغت قليلاً.</p><p> ذكرني تعليق زهير بالخلاصة التي استفادها العلماء الأفاضل من حديث الدجال (وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله: فذاك اليوم الذي كسنة اتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره.</p><p>استفاد العلماء من هذا الحديث في استصدار فتاوى تخص المصلين في الأقطاب وفي السويد وما شابهها من الدول، حيث يبلغ دخل الفرد أرقاما قياسية استنادا على هذا الحديث لا ينبغي للفرد المصلي في القطب الشمالي أن يجمع الصلوات، ولكن يوزعونها على مدار اليوم تقديرا.</p><p>هناك دراسات وأبحاث عديدة تناقش هذه النقطة أغلبها مليئة بالأرقام ودرجات ميلان الأرض والعديد من الأدلة والإثباتات والنظريات العلمية ثم تنتهي هذه الدراسات بحديث الدجال لإثبات أن الصلاة يجب أن توزع على مدار اليوم.</p><p>نعود إلى قصة الإمام أبو حنيفة (والتي لم تثبت عنه).. إذا احترمنا شخصا لأنه "عالم" هذا يعني أن لا نحترم الشخص الآخر لأنه "جاهل". نحترم "المدير" ولا نحترم "عامل النظافة". نكلم المدير بهدوء وبابتسامة ونصرخ على عامل النظافة.</p><p><span style="color:#FF0000;">هل نعامل الناس بناء على من هم أم بناء على من نحن؟!</span> هل تصرفاتنا تصدر من داخلنا أم أنها مجرد انعكاسات للأشخاص الآخرين؟! هل عبارة "الناس مقامات" مقبولة؟!</p><p>قصة أبو حنيفة كانت ستبدو أجمل لو أنه حين دخل الضيف الجديد استأذنه بمدّ رجليه كما استأذن باقي الطلاب من قبل، حتى ولو كان هذا الضيف هو شيخه حماد. استأذنه لأنه يحترم الناس جميعا وليس لأن الشخص يبدو عالما لذلك يستحق الاحترام.</p><p> أبو حنيفة إنسان يصيب ويخطئ ولا بأس في ذلك، ولكن مالا يعجبني هو أن تُلاقي هذه المقولة استحسان الناس وتنتشر وتؤثر في وعينا وتحفز "الأنا" عندنا. أنْ يُنظر لهذه المقولة بعين الرضا وليس بعين الانتقاد. يصبح الناس مقامات ويوزع الإنسان الناس على هذه المقامات، وبالطبع يختار لنفسه مقاما منها ويبدأ يعزف عليه، حتى ولو كان مقاما وضيعا.</p><p><span style="color:#FF0000;"> هل هناك تباين بين مستويات الناس؟</span> عندي مال وفير هل يعني أني أفضل من الشخص الفقير؟! عندي علم غزير هل يعني أني أفضل من الشخص الأُمي الذي لا يقرأ ولا يكتب؟! عندي أصل جيد هل يعني أني أفضل من الشخص مجهول النسب؟! عندي قيم ومبادئ معينة هل يعني أني أفضل من شخص آخر يحمل قيم ومبادئ مختلفة عن قيمي ومبادئي؟!</p><p>ما يقلقني هو أن الكثيرين يعتقدون أن "الناس مقامات"، وأن أبو حنيفة يحق له "أن يمد قدميه أحيانا ويطويها أحيانا أخرى".</p><p>هناك من يرفض هذا التقسيم ولكنه يتبنى تقسيما آخر أكثر ضبابية وفيه مجال أوسع للتحايل والاستغلال. "الناس سواسية ولا يتميز شخص عن شخص إلا بالتقوى"، يعني الشخص التقي نحترمه أكثر ونقدره وربما نقدسه والشخص غير التقي لا نحترمه ولا نقدره وربما نُهينه! كيف نعرف أن الشخص تقي؟! ملتح مثلاً؟! ثوبه قصير؟! ختم السجود على جبهته؟! هذه صفات بعض المتقين وهي أيضاً صفات بعض النصّابين.</p><p>مقياس التقوى غير معلوم ولا يقدره إلا الله سبحانه يوم الحساب. يعني أن الحديث "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" هو فقط للحث على التقوى، ولا يصح استخدامه لتقييم الناس، بينما في الواقع الأغلب يستخدمه في سياق التقييم والقسيم.</p><p><span style="color:#FF0000;">الخلاصة.</span>. يجب أن نطرد عبارة "آن لأبي حنيفة أن يمد قدميه" من وعينا الجمعي وننظر لها بعين السخط لا عين الرضا.</p><p> </p><p> </p>
لا يفوتك