الأوتاد حافظو العهدة
محمود ابراهيم
الخميس، 12 فبراير 2015 06:42 ص
عن هؤلاء الذين غرسوا ولم يحصدوا, عن الذين كان همهم حفظ عزيز الموروث, عن الذين آمنوا بالاستمرارية, فكانت مهمتهم نقل كل حاضر عاصروه للمستقبل بأقل خسائر, عن هؤلاء الذين حافظوا على العهدة, فأفنوا حياتهم دون تبديدها.. للذين صنعوا الإيثار,, تقدير الشاكرين .
عن الذي صمت ولم يُجِب مع من أجابوا فنالوا أولى مكافآت حياتهم- نظرات رضا, عن ذلك الذى قاوم مبكرا بالإعراض والرد الصادم الخجول بعكس المُنتظر, فنال السخط والازدراء, عمّن أجاب بالرد الحائر المربك الموجّه صوب الحقيقة, فمس صميم المأساة, مؤشرا لبداية الزلزلة..
عن ذلك الذي آثر الدفاع عن صغار المنبوذين, وزهد الاندفاع وسط المهاجمين, رأفة بحال من لم يرتكب جريرة بعد.. عن ذلك الذي استشعر قبل الأوان, أنه يمكن أن يكون بالأرض أخيارٌ متعددون.. عن ذلك الذى لم يبحث عن غريب يناصبه العداء, ولم يسع نحو فُرقة قبل أن يبحث عن روابط تجمع الأضداد, وقبل أن يهتم بتكوين صداقات لذاته
من حاول إيجاد ألفة شاملة تعم الجميع إلا من أبى, عن ذلك الذى لم يبحث عن عناصر الشقاق, وارتأى الجمع بين الأشتات, فاتُهم بأنه عنصر سوء يصنع الشتات داخل الفِرقة الناجية, عن ذلك الذى لم يبتسم تملقاً ومجاملة, حينما قهقه رفاقه الصغار سخرية مما ليس لهم به علم.
أدركوا بفطرتهم كون جميعهم ضعفاء, فاختاروا الأكثر ضعفا لاختصاصه بلمز يوجع النفوس دون الأجساد, ضحكة متشفية أو ابتسامة ماكرة, أو نظرة ازدراء عابرة, كفيلة بمنحهم رضا الكبار, قدوتهم ومانحى التقدير, وكفيلة بغرس الانكسار للأبد فى نفوس أخرى، مجاملة بسيطة لم يبدها هو, حرمته الرضا, وكانت أول مسار صِداماته التى لا تنتهى..
عنه هو.. من حينما كبر, فكان السند والعون للأرض والمكان.
عـن ذلك الذي كانت أقداره عبء الدفاع منذ نعومة الأظفار, فحُرم إحساس المهاجمة ولذة تشفى القطيع فى هزيل بائس, يدفع عن نفسه جرما لم يرتكبه..
عن هذا الذي اعتبر الألم جزءًا طبيعيا من مكونات الحياة, واعتبر غيابه رفاهية لقلة محظوظة, عن ذلك الذي فعل وأدَّى ولم يتنصل وقتما تهرب الآخرون, فلم يخذل متعشما, ولم يهجر خندقا, فأدى ما عليه وسط الكسالى والمتثائبين, فقلّ مادحوه وكثر ناقدوه, ولم ينل حمدا ولا شُكرانا.
عن ذلك الذي اعتبر نفسه آخر ريشة قد تضبط ميزان بقاء الكون, وكلف نفسه عبء حفظه سالما, ويعتقد بقرارتِه بدوره الفاعل فى الوجود الشاسع, ويتعفف عن الذِكرعلى الملأ, وتخبره نفسه بذلك دوما.
عن ذلك الصغير الذي أبت فطرته مجاراة الرفاق بنكتة تسخر من ضعيف, أو مريض أو منتمِ لعقيدة لم يدر عنها خبرا.. وتدٌ صغير يتشكل تكوينه من صُلب الملحوظات والمرفوضات, حتى يصير سفودا صلبا.
وسط كل تجمع للصغار قلب صوفى نابت, آخذ فى التشرب من نهل الحكمة التى صادفت طريقه القصير, وعقل حكيم نابه, غالبا ما سينسى نصيبه من الدنيا, يحاول فهم القواعد التى تركها السابقون, وفرز جيدها من رديئها, ومعها يبدأ فى غرس مسببات تهميشه وإقصائه المستقبلى, ويضع معها عوامل تآكله وفنائه..
وسط كل تجمع للصغار جُندى سيخلص تماما لمهمة تتفاداها الجموع, ووسطهم أيضا ذو حال رقيق يمتلك نفسا لنبيل, وبالضرورة وسطهم مدّع وأفاق وناقل للضرر..
سيستمرون على كل حال..
ووسطهم أكوام ممن يناصرون ويخشون ويجاملون ويسيرون دون هدْى, سوى من تدافع واتباع, ستتبدل بهم السُبل ويتقلبون مرات ومرات, حتى تكتمل حياتهم دون الرسو على شاطئ غير المنفعة.
نفسه الاستثنائية, مؤشر دال على ما سوف يلقاه مستقبلا, فيكمل صباه بدفعة الآمال الأولى.. تكبر النفس قليلا وتُلح الملحوظات الوليدة لتمرر لنفسها مجازا نحو العلن, بالتوازي مع تسرب هرموناته فى الأوردة..
مرحلة جديدة لتحدى رجولته الوليدة, قد يتحول الصراع لعقدة سخيفة ترتبط بعجزه بقية حياته, فيُقمع للأبد, ويعيش مستترا مهتز الشخصية فى الظل حتى الممات.. أما وقد خرجت مكنونات الفتى اليافع مرات على استحياء لاستشفاف الأجواء, ثم عادت ثانية لمستقرها.. فخاطر مرات بالإعلان عنها فى حذر, خوفا ومنجاة.. فيتمزق بين كبت يقينه وصرخات ضميره, فإن ثبتت أقدامه, صارع الموجة تلو الأخرى, من أجل حفر مكان لنبل فكرته بين مئات السخافات.
يتخبط بين إقبال وإدبار حتى يتملك نواصى الحكمة, ويتشرب بخبرات وفنون معاملة الأفاعي والزواحف المتلونة, ويكتسب قوَّته بقدر صموده, فتصير كلمته مسموعة.
الرفاق الصغار نبتة غرس المقاومة, مقاومته هو,, هم أداة تكاثر فى يد المعلمين, الذين غرسوا نبتهم بين الأبرياء, ليهدموا العرش القائم ويبنوا عرشهم المتوهم محله, الرفاق الصغار الذين ابتسموا وجدت "التقية" لوجدانهم سبيلا, وحفرت لذاتها تكوينا فى نفوسهم, قد كبروا وصار منهم الآن معلمون يغرسون "التقية" والهدم فى نشء جديد .
المسيحى الصغير محل خوف ورعاية, فلنلمزه باستمرار, يُغرَس مسمار أول لهدم البناء, ثم يختل البناء وحده بمرور الوقت, الأطفال ملائكة تحتاج لشيطان تشعر بنقائها أمامه, فليكن الطفل ذو الصليب هو ذاك الشيطان المطلوب لهم, وليكن هو ذلك المنبوذ المتسائل دوما حليفه, حد هنا مسيحى يا ولاد؟! لأ.. طيب الحمد لله كلنا مسلمون.. واحد فقط فى كل تجمع يرفض هذا المشهد, وهو مسلم أيضا, يستهلك من أعصابه الكثير لإيجاد مشهد بديل.. يكتشف فى كبره أنه أضاع عمره فى إثبات البديهة..
هو الذى قُدِّر له مقاومة الكبار والصغار منذ ترك حجرته وخرج يستكشف العالم, فوجد بالخارج مقاومة شديدة لكل تعاليم تلقاها قبل الخروج.. هذه إشكاليات أكبر من قدراته بملايين الأميال, لكن المُدهش أنه استمر, استمر رغم توالى خسائره العميقة, والمدهش أكثر أنه يخيف هذه الكثرة, فكان بقاؤه للآن انتصاراً..
هو الذى كبُر الآن, و يحارب أخطبوطات بأذرع خادعة, جميعها تقسم أغلظ الأيمان أن بغيتها الإيمان..
هو الذى نال كل ألوان التشوه والتشويه, ولكنه .. ولكنه تخطى واستمر.. ويزداد إصراراً ويزداد صلابة..
عن أولئك الذين يستشعرون المكتوب فى نفوسهم, أن يعتزوا بسيرتهم وبما أرسوه فى الأرض..
لا يفوتك