التوقيت الأحد، 22 ديسمبر 2024
التوقيت 11:14 م , بتوقيت القاهرة

أوباما.. ليس "للصبر حدود"!

ما كشفته الأسابيع القليلة الماضية يعطي فكرة عن أي شرق أوسط سنرثه من الرئيس الأميركي باراك أوباما. البساطة التي يعبر بها الرجل عن الأمور الخطيرة ليست مسألة بسيطة، لكن فضيلتها أنها لا تترك مجالا كثيرا للأوهام.


قبل أيام قليلة أصدر البيت الأبيض "استراتيجية الأمن القومي"، وهو تقليد رئاسي وسياسي ومؤسساتي أميركي يلزم الرئيس بوضع وثيقة تعبر عن رؤيته لحماية الأمن القومي الأميركي، وتحدد بالتالي خياراته في السياسات العامة والدفاعية والخارجية.


اللافت أن الوثيقة نصت على "الصبر الاستراتيجي" في التعاطي مع الأزمات التي يشهدها العالم ومنها الشرق الأوسط!! أي أننا أمام سنتين من ولاية أوباما سيحدد فيهما مفهوم "الصبر الاستراتيجي" خيارات الإدارة الأمريكية وطبيعة ردود فعلها على التحديات الأمنية والسياسية.


ينسجم هذا المفهوم الجديد مع السياسات العملية التي تعتمدها الإدارة الأميركية حيال ملفي الإرهاب والملف النووي الإيراني ويخرجها من دائرة الالتباس.


فالمتابعة الدقيقة لمسار المفاوضات الأمريكية الإيرانية حول البرنامج النووي تشير إلى أن أوباما بات يتطلع إلى "اتفاق إطار" مع الإيرانيين، كما صرح مسؤولون إيرانيون وأميركيون مؤخرا، وليس إلى توقيع اتفاقية ناجزة تعالج بشكل حاسم الملف النووي الإيراني وكل الهواجس المرتبطة به.


أي أن أوباما الذي يدرك أن إيران لن تتقدم باتجاه تسوية تاريخية، لا يناسبه أن يبدد الاستثمار السياسي الكبير في محاولته حل هذه المسألة، ما جعله مستعدا لإطلاق "عملية سلام" نووية وليس "اتفاق سلام" نووي مع الإيرانيين. ما يعني أن العالم لن يكون، في الأسابيع المقبلة أمام "كامب دايفيد" نووي بين واشنطن وطهران على غرار الاتفاق الناجز بين إسرائيل ومصر، بل أمام "اتفاق أوسلو" نووي بين الطرفين يملك كامل القدرة وقوة الدفع على استيلاد اتفاقات وتفاهمات فرعية إلى أمدٍ يطول.


وفي هذا السياق يراهن أوباما أن "العملية" التي سيخلقها مع الإيرانيين ستؤدي في منتهاها إلى نتائج تغييرية على مستوى الخيارات السياسية الاستراتيجية لإيران إذا ما أحسن الأميركيون لعبة "الصبر الاستراتيجي". فإيران التي ستعتمد على الحوار مع واشنطن ستفقد تدريجيا الكثير من قدراتها التعبوية، وسيتاح لقطاعات كبيرة من شعبها أن تعبر عن مواقفها وطموحاتها وتصوراتها وهي متحررة من الأعباء الأيديولوجية لنظام الثورة الذي يجالس الشيطان الأكبر ويعقد معه الصفقات والتفاهمات! التفاوض المديد سيخلق بيئة حاضنة لخيارات التغيير الإيرانية لا سيما أن إيران لن تحظى بالعائدات التي تنتظرها وتستحقها، فيما لو كانت أقدمت على تسوية تاريخية ناجزة.


"الصبر الاستراتيجي" يظهر مجددا في الخيارات التي تعتمدها إدارة الرئيس أوباما حيال الإرهاب، وداعش على وجه التحديد. فاستراتيجية الضربات الجوية التي بدأت لوهلة أنها خيار عسكري كبير سيغير معادلة "داعش" في المنطقة، يتضح عمليا أنه خيار الحد الأدنى (وأقل) لاستيعاب الضغوط الداخلية على الإدارة كما ضغوط الحلفاء "لفعل شيء ما" حيال داعش.


تكفي المقارنة مع استراتيجية مماثلة اعتمدتها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش في كابول لتبيان الفرق، حيث يتضح أن عدد الغارات التي شنت في سوريا والعراق لا تتجاوز، على مدى الفترة الزمنية نفسها، سُبع الغارات التي شنها الجيش الأميركي قبل أن يسقط حكومة طالبان!


أما خيارات أوباما البليدة حيال تسليح المعارضة المعتدلة وتدريبها وعدم رغبته في تفهم مطالب حكومات دول الجوار السوري لا سيما المملكة العربية السعودية وتركيا، فتشير كلها إلى أن الرجل غير مهتم بأكثر مما أقدم عليه، مضطرا، حتى الآن.


وقد كشفت مقابلة أوباما مع الصحافي الأميركي المخضرم فريد زكريا جانبا مهما من تفاصيل هذا الموقف وارتباطه العميق بمفهوم "الصبر الاستراتيجي". قال أوباما إنه بوسع داعش إعلان الخلافة إلا أن "أحداً لا يتوهم أنه بوسع داعش تقديم الغذاء والتعليم وتنظيم المجتمع على نحو مستدام"، واصفا إياها بأنها "فرقة قتل وفانتازيا رجعية لا يُمكن لها أن تعمل في عالمنا الحالي". لكن اللافت أكثر أن أوباما حرص بلا أي التباس على التأكيد أن داعش "لا تشكل تهديدا وجوديا لأميركا أو للنظام العالمي" .


بكلام آخر لا يبدو الرجل في عجلة من أمره لمقاربة موضوع "داعش" خارج إطار الضربات الموضعية، حيث يمكن، وانتظار أن تأكل داعش نفسها والجهاديات الأخرى. فهو يرى أن الحرب الجهادية السنية الشيعية تستنزف عدوى أمريكا من السنة والشيعة بما لا يسمح بمقاطعتها وهما منشغلان بذبح بعضهما البعض.


وعليه فإن الشرق الأوسط الذي سنرثه هو إيران مستأسدة بأنصاف الحلول والتفاهمات مع أمريكا وداعش النامية في وجهها، والأكثر استعدادا لمواجهتها. أي أننا أمام استراتيجية أميركية، أي تكن مقاصدها، هي في العمق إدارة حقيقة للحرب الأهلية داخل الإسلام في جحيم الشرق الأوسط، فيما على واشنطن أن تنتظر النتائج في الطرف الآخر من الكوكب.