التوقيت الأحد، 22 ديسمبر 2024
التوقيت 11:11 م , بتوقيت القاهرة

"الموت لأمريكا".. بوسعه أن ينتظر

لن يكون صعباً على حزب الله أن يبتلع التقرير الذي نشرت تفاصيله كل من صحيفة "واشنطن بوست" ومجلة "نيوزويك" الأميركيتين، ومفاده شهادة عدد من الموظفين السابقين في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عن أن عملية اغتيال القيادي في حزب الله عماد مغنية عام 2008، كانت عملية مشتركة للوكالة وجهاز الموساد الإسرائيلي. 


حزب الله اتهم إسرائيل منذ اليوم الأول بالمسؤولية عن تصفية مغنية. وما كان مستبعداً أن يتهم واشنطن، حينذاك، بالاشتراك في الاغتيال. هذا من بديهات العقل الأيديولوجي لحزب الله الذي يقيم على تصنيف أميركا وإسرائيل كشيطانين لا يختلفان إلا بالحجم. 


لكن الزمن تغير. تسريب الخبر الآن ورصد رد فعل حزب الله السياسي عليه (الإعلام هنا ليس مؤشراً) قد يوفر نافذة على التغيير العميق، أو على نحو أدق التأقلم العميق حتى الآن، الذي تمر به إيران (وحزب الله تالياً) مع وقائع الجغرافيا السياسية الجديدة في المنطقة منذ أن قررت طهران، عبر حزب الله وآخرين، الدخول مباشرة في الحرب السورية، مرورا بإعلان دولة الخلافة الإسلامية على بقعة تلغي الحدود السورية العراقية، وصولا إلى تشكيل التحالف الدولي لضرب داعش بقيادة الولايات المتحدة وتعاون إيران غير المباشر.  


ومن علامات تغيير الأزمنة ما اختبره حزب الله بعد غارة القنيطرة على موكب لحزب الله والحرس الثوري الإيراني، من تنسيق استخباراتي رفيع المستوى بين الإيرانيين والأميركيين سمح لحزب الله برد محدود ومضبوط في شبعا، جنوب لبنان، من دون المغامرة في إشعال حرب كبيرة بين لبنان وإسرائيل وربما أبعد. 


ويعلم حزب الله جيدا أن البيئة الاستراتيجية الحاضنة لعملية شبعا، هي وليدة هذا التغيير الذي يصيب العلاقة بين طهران وواشنطن بحيث بدت أميركا في الأيام العشرة التي تلت غارة القنيطرة وكأنها "تنظم الخلاف" بين حليف استراتيجي هو إسرائيل أقدم في لحظة ما على صفع حليف تكتيكي هو إيران! 


وهنا ملاحظة شبه "عنصرية" لا بد من الاستطراد بها. التفاهم الإيراني الأميركي سمح بالرد من لبنان على سقوط دم إيراني في غارة القنيطرة ولم يسمح حتى الآن بالرد على سقوط مغنية الأب. وفي سياق متصل لم تضِع الرسالة الخبيثة في متن التقرير الأميركي عن اغتيال مغنية، والتي تقول لقائد لواء القدس قاسم سليماني إننا عفونا عنك وكان بوسعنا قتلك مع مغنية، في إشارة إلى تقدم الدم الإيراني على نظيره اللبناني!!


ليس خافيا، أن الجنرال الإيراني محمد علي الله دادي الذي قضى في غارة القنيطرة هو أحد أرفع مسؤولي الحرس الثوري في سوريا والعراق ويعمل تحت إمرة رجل طهران في الإقليم الجنرال قاسم سليماني الذي بدوره يعتبر الوجه الأبرز لهذا التقاطع الاستراتيجي بين أميركا وإيران وعملهما المشترك في مسرح عمليات واحد وضد عدو مشترك هو التطرّف السني. 


يكفي للدلالة عن هذا التقاطع بعض الوقائع القليلة التي كُشفت للعين المجردة وأبرزها واقعتان. الأولى هي الغارات الإيرانية على الموصل التي أكدتها وزارة الدفاع الأميركية في ديسمبر الفائت، ولاقت ترحيباً من الخارجية الأميركية. أما الثانية فهي عملية تحرير جرف الصخر جنوب غربي العراق والتي قادها الجنرال سليماني شخصيا وسط تقارير عن أن الصور التي انتشرت لسليماني في العراق التقطت خلال إدارته للعمليات في هذه المنطقة التي قاتلت فيها ميليشيات شيعية عراقية أبرزها حزب الله العراق وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر وسرايا الإسلام التابعة للتيار الصدري، بالإضافة إلى مقاتلين من حزب الله اللبناني بغطاء جوي، منسق أو غير منسق لا يهم، من  الطيران الأميركي. 


 يضاف إلى ذلك أن ما شهدته الساحتان السورية والعراقية في الأسابيع القليلة الماضية من إنجازات ميدانية عسكرية في كوباني السورية وديالى العراقية، بصرف النظر عن تفاصيلها اللوجستية والميدانية لناحية هوية العناصر المقاتلة، إلا أنها تصب مياها كثيرة في طاحونة التقاطع التكتيكي، ولكن ذي التأثيرات العميقة، بين واشنطن وإيران. 


وفوق كل ذلك تبدو المبادرة الداخلية اللبنانية، حتى الآن، بيد حزب الله بما يخفف عليه مسألة الضغوط المعنوية عبر جمهوره وخصومه، لا سيما أن عملية شبعا وفرت له دفعا معنويا، معتبراً يقيه الحاجة إلى رد انفعالي على تقرير "واشنطن بوست" و"نيوزويك".


ولعل من أهم العناصر التي تبقي المبادرة الداخلية بيد حزب الله، (حتى الآن مجددا)، هو عجز القوى المحلية اللبنانية المناهضة له عن استيلاد، مشروع مواجهة سياسية وشعبية مع الحزب بعد أن فقدت هذه القوى الجزء الأكبر من زخمها، ولم يبق لها في أحسن الحالات إلى رد فائض الاعتداء الذي مارسه حزب الله بتشكيل حكومته برئاسة نجيب ميقاتي، وإعادة نوع من التوازن السلبي الى داخل مؤسسات النظام عبر إسقاط هذه الحكومة وتشكيل الحكومة الحالية برئاسة تمام سلام. 


وعربياً، وعلى الرغم من الانهيار الكبير في سمعة وحضور وصورة وهيبة حزب الله، وتحوله إلى أداة في مشروع عدوان مذهبي على دول وشعوب المنطقة، إلا أن الحزب، كما إيران،  يتحركان في بيئة فاقدة بدورها لإمكانية تكوين مشروع يتجاوز فضح المشروع المذهبي الإيراني عبر الإعلام وبعض السياسة. 


فالبيئة الاستراتيجية العربية لا تزال عاجزة عن استيلاد مشروع مواجهة مع إيران وحزب الله مع ما يتطلبه ذلك من قرارات صعبة أولا على مستوى وضع استراتيجية مواجهة في الخارج وثانيا الشروع داخلياً  بالمصالحات الضرورية  لتحصين مجتمعات ودوّل المنطقة وتجفيف مناطق الاستثمار التي تستغلها طهران لرفد مشروعها المذهبي والاستراتيجي. 


سيمر التقرير عن اشتراك الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية في تصفية عماد مغنية بقليل من الجلبة والكثير من القدرة على ابتلاعه. أولوية إيران الآن هي ترميم وصيانة التحالف التكتيكي مع واشنطن وليس تصفية حسابات ربما يكون قد تجاوزها زمن الإقليم.