العهدة العُمرّية
من أجل تبييض صفحة التاريخ، لخدمة ادعاء مفاده أنه عند لحظة الإسلام توقَّفت مسيرة التاريخ والإنسان، يزعم البعض أن قيم الماضي كانت أرقى من قيم الحاضر. ولأن صورة "عمر بن الخطاب" بالذات أحد الصور المُشرقة في تاريخنا الإسلامي، مقارنة بغيرها، تتبارى أقلام بعض الباحثين في تضليل القارئ، عبر إسقاط كل قيمة انتزعها الإنسان في رحلة كفاحه الطويلة، على تاريخه رضي الله عنه وأرضاه، وذلك لخدمة تصور معناه: إن حل مشاكلنا يكمُن في العودة إلى سيرة عمر، وهو تصور من شأنه أن يُضحك عمر في قبره، على حد تعبير "النيهوم".
حقوق المواطنة هي أحد المكاسب التي "انتزعها" الإنسان عبر رحلة كفاحٍ مريرة امتدت لقرون! تلك حقيقة لا يُماري فيها عاقل، ولا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ، بيد أن الْمُضِلِّينَ يعمدون للقول إن عمر بن الخطاب قد "منحها" طوعاً لنصارى الشام! ولا أحد يدري كيف لرجلٍ عاش في الحِقْبة الدينية، تلك التي كان فيها الدين وحده هوية، أن يمنحَ طوعاً هذا الحق لمن قال عنهم كتابه المقدس إنهم كفارٌ لا بد أن يُعطوا الجزية وهم أذلاء صاغرون! معتمدين على رواية مبتورة تُفيد بأن عمر أعطى أهل "إيلياء" أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم.
يزعم هؤلاء أن حق المواطنة قد تحقق في الإسلام قبل أربعة عشر قرنا. وهي شكلاً رواية "شاذة" أوردها الطبري في تاريخه "بلا سند"، ومضموناً تناسوا أن هذه الرواية بالذات لم تلقَ أي قبولٍ في أوساط الفقهاء ولا المؤرخين من بعد زمان الطبري، بل وطيلة أربعة عشر قرناً كاملة لم يُبنَ عليها حكمٌ فقهي معتبر، وذلك مرده أمران.
الأول: العهدة العمرية، أو ما جرى تسميتها بالشروط العمرية، جاء نصها "الحقيقي" الذي اشترطه المسلمون على نصارى الشام بعد موافقة عمر بن الخطاب كالتالي:
شَرَطْنَا لَكَ عَلَى أَنْفُسِنَا:
(1) أَلَّا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً، وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا قِلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ، وَلَا نُجَدِّدَ مَا خُرِّبَ مِنْ كَنَائِسِنَا.
بما يعني أنه محظور على المسيحيين، أن يبنوا أي كنيسة جديدة في مدينتهم، ولا صومعة أو دير خارجها. والقلاية بحسب ما ورد عند ابن منظور في "لسان العرب"، هي بيت من بيوت عبادة النصارى. وكذلك يحظر عليهم أن يُرمّموا أي كنيسة قديمة! بيد أن هذه الكنائس الخاصة بالمسيحيين لم تعد خاصة بهم أصلاً، إذ قد جاء في الشروط ما نصه:
(2) أَلَّا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
وقد فرض الفاروق- رضي الله عنه- على المسيحيين الطريقة التي يتبعونها في أداء طقوسهم حتى داخل كنيستهم؛ إذ تقول العهدة العمرية:
(3) وَأَلَّا نَضْرِبَ بَنَوَاقِيسِنَا إِلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا، وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا، وَلَا تُرْفَعَ أَصْوَاتُنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَلَّا نُخْرِجَ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَلَّا نُخْرِجَ بَاعُوثًا وَلَا شَعَانِينَ.
والشعانين كلمة سريانية مُعرّبة لأحد أعياد المسيحيين، أما الباعوث فكلمة سريانية أخرى، تشير إلى طقس يشبه صلاة الاستسقاء عند المسلمين. بما يعني أن الطقوس المسيحية، فضلاً عن الأعياد، لا تُمارس إلا داخل الكنائس فقط، تلك التي لم تعد خاصة بالمسيحيين أصلاً، لذا، وبحسب ما جاء في الشروط، ليس مسموحاً لهم بأن يضعوا فوقها أية صلبان.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قد جاء في الشروط ما يحدد لهم سلوكهم وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم، وهو ما ورد ذكره كالتالي:
(4) لَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا، وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّا نُجَاوِرَهُمْ بِالْخَنَازِيرِ وَلَا بِبَيْعِ الْخُمُورِ.
وبديهي- في ظل هذه الشروط- ألا يفوت على أمير المؤمنين- رضي الله عنه- أن يحظر على أهل ذمته أي نشاط تبشيري، وأن يُحرّم عليهم أن يدعوا أحدا إلى دينهم، وذلك ما قد نص عليه البند التالي:
(5) لَا نُرَغِّبَ فِي دِينِنَا وَلَا نَدْعُوَ إِلَيْهِ أَحَدًا، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ الرَّقِيقِ الَّذِي جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ.
لكن منع المسيحين من الدعوة إلى دينهم والتبشير به، وهو المنع الذي ينسف ادعاء المدعين، لا يعني مطلقاً أن الأمر بالمثل مع المسلمين، ذلك لأن العهدة العمرية قد نصت على العكس، حال ما أراد أحد منهم أن يدخل الإسلام، إذ تقول:
(6) أَلَّا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَقْرِبَائِنَا أَرَادُوا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ.
ولأن الأمر لا علاقة له بالمواطنة، ولا بالمساواة في الحقوق، ولأنه محض تمييز بين المسلمين وأهل الذمة من المسيحيين، فقد حددت الشروط العمرية شكل الزي الذي يتوجب عليهم ارتداؤه، ونوع الدواب التي يمتطونها، و طريقة الكلام التي يتحدثون بها، بل وحتى تسريحة الشعر. وهو ما قد أشير إليه حرفياً بالقول:
(7) أَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا، وَأَلَّا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ وَلَا فِي مَرَاكِبِهِمْ، وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ وَلَا نَكْتَنِيَ بِكُنَاهُمْ، وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا، وَلَا نَفْرُقَ نَوَاصِيَنَا، وَنَشُدَّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا، وَلَا نَنْقُشَ خَوَاتِمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلَهُ وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ، وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَنُرْشِدَهُمُ الطَّرِيقَ وَنَقُومَ لَهُمْ عَنِ الْمَجَالِسِ إِنْ أَرَادُوا الْجُلُوسَ، وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ.
وهكذا فلم ينسَ ثاني الخلفاء الراشدين أن يحفظ لشعبه المسلم مكانته واحترامه، فقد فرض- رضي الله عنه- على المسيحين السلوك الذي يسلكونه في المجالس، وحال سألهم أحد الفاتحين عن طريق أو جهة، وأمرهم بعدم النظر إلى بيوت المسلمين أو منازلهم، التي لم تكن خُصصت لهم أصلاً.
وإلى هذا الحين، إلى أن تُخصص للمسلمين المنازل أو تبنى، يتوجب على كل مسيحيّ أن يستضيف المسلم في بيته ثلاثة أيام، إذ تقول الوثيقة:
(8) أَنْ نُضِيفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرِ سَبِيلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَنُطْعِمَهُ مَنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ.
ويعقب ابن كثير- رحمه الله- على مجمل هذه الشروط فيقول: ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم، وتصغيرهم، وتحقيرهم.
وقد حظرت الوثيقة على المسيحيين أن يُعلّموا أولادهم القرآن، كما حظرت عليهم أن يشاركوا المسلمين في أعمال التجارة بأموالهم، إلا في حالة واحدة فقط، وهي أن يقوم المسلم على التجارة، وأن يكون هو سيدها. وهو ما قد نُص عليه بالقول:
(9) ألا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ، وَلَا يُشَارِكَ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى الْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ،
ويفسر لنا ابن القيم هذا الشرط حين يقول: صيانةً للقرآن أن يحفظه من ليس من أهله ولا يؤمن به، بل هو كافر به. وقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم؛ فلهذا ينبغي أن يُصان عن تلقينهم إياه.
وتنتهي الوثيقة بإقرار من المسيحيين على أنفسهم بموافقتهم على ما قد جاء فيها، وأنه في حال أخلّوا بأحد البنود تعتبر الشروط لاغية، وهو ما قد نُص عليه بالقول:
(10) ضَمِنَّا لَكَ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَزْوَاجِنَا وَمَسَاكِينِنَا، وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَقَبِلْنَا الْأَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا ذِمَّةَ لَنَا، وَقَدْ حَلَّ لَكَ مِنَّا مَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ
وقبل أن أستأذن في الانصراف، يتوجب أن أشير هَاهُنا إلى جملة كاشفة جداً قالها ابن القيم في كتابه "أحكام أهل الذمة"، إذ يقول: وشهرة هذه الشروط تُغني عن إسنادها، فإنّ الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، ليس هذه فحسب، إذ يردف: وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها. وهو ماسنشرحه بالوقائع والممارسات العملية، في مقال الاثنين المقبل بإذن الله.
المصادر:
الطبري. تاريخ الرسل والملوك. المجلد الثالث، صـ 609.
ابن القيم الجوزية. أحكام أهل الذمة. المجلد الثالث. صـ 1165
ابن كثير. مسند الفاروق. المجلد الثاني. كتاب الجهاد. صـ 489
الدَّمِيري. النجم الوهاج في شرح المنهاج. المجلد التاسع. صـ 421 وما بعدها
البيهقي. معرفة السنن والآثار. المجلد الثالث عشر. صـ 381
ابن تيمية. مسألة في الكنائس. صـ 136