مرحبًا أيها الحزن
لم أجد عنوانًا معبرًا عن حالة الانكسار، واختناق الدمع على مشارف العين، سوى عنوان رواية الروائية الفرنسية الرائعة، فرانسوا ساجان، "مرحبًا أيها الحزن".
أتذكر جيدًا حالتي عندما قرأتُ الرواية للمرة الأولى في مُقتبل العمر، أتذكر ذلك الحزن الشفيف الذي تملّكني وجعلني متوحدًا بدرجة ما مع فكرة "الإنسان" وقيمة الوجود في حد ذاته، هكذا فعلت بي ساجان، وهو نفس ما فعلته بي قصة بهاء طاهر الرائعة " بالأمس حلمت بك".
كان الانكسار يحتدم بداخلي والأخبار تتواتر عن هجومٍ شامل على العريش، وسقوط المزيد من الشهداء، وكانت مواقع التواصل الاجتماعي تُلاحقني بمزيدٍ من الفيديوهات ومعها المزيد والمزيد من الألم والانكسار.
هذا المحيط الأطلنطي يبعد آلاف الكيلوميترات عن حي السلام بمدينة مصرية صغيرة اسمها العريش، كيف إذن يصل الحزن محملاً برائحة الدم واللوعة بهذه السرعة إلى سواحل القارة الأمريكية. كيف تبدو وجوه ركاب مترو أنفاق نيويورك عادية، وكيف لا يعرفون أن ثمّة مدينة جميلة، كنا ننظم رحلات اصطياف إليها في سنوات الدراسة، هي الآن غارقةُ في الدم، ودخان بارود الغل والخيانة.
كنت منكفئا على جهاز "اللابتوب" في ركن بعربة المترو، حيث اعتدت كتابة مقالي الأسبوعي، في مسافة العودة ليلاً من العمل إلى البيت. كنت متكورًا في مقعدي كطفلٍ مُذنبٍ يغالبُه البكاء، ووجوه الناس من جنسيات ومشارب متعددة تواصل فعل الحياة بآلية واعتياد ولا يعنيها- بأي شكل- أحزان مصريّ يحمل وطنه في قلبه.
قصص الشهداء وصورهم تتواتر على مواقع التواصل الاجتماعي، وجوه أعرفها وأُحدثها من طين بلادي، يحملون نفس ملامحي، نفس كود الجينوم الريفي والصعيدي الذي روى هذه الأرض بدمائه، ولم يسأل يومًا عن مقابل، نفس الـ DNA الذي نذرته الأمهات كي يستقبل النار بصدره خوفًا من أن تستقبلها الأرض الطيبة، التي اختصر الفلاحون جغرافيتها ووجودها منذ الملك مينا، في قلوبهم كبردية أرض ونهر وحصاد، واختزلوا الوجود كله فيها، وأسموها "أم الدنيا". وجوه من أعرف هي الآن أشلاء متطايرة بفعل الخيانة والتواطؤ القذر، لدول تنفق بسخاء، كي تتمزق هذه الجغرافيا، ويٌسحق هذا الجينوم النيلي.
كنت مجندًا في مطلع تسعينيات القرن الماضي بالكتيبة 222 دفاع جوي بصحراء عجرود بالسويس، كنت أعد الأيام كي تمر أربعة عشر شهرًا سريعًا، وأعود إلى المنصورة، كانوا يبحثون في الكتيبة عن خريجي أقسام لغة إنجليزية لعمل شرائح ضوئية تُعرض على برجيكتور ضوئي قبل اختراع الباور بوينت، وذلك خلال مناورات كانت تتم مع أمريكا تُسمى النجم الساطع، ضمن برنامج تدريبي مشترك عالي المستوى.
كان القائد الأمريكى يرقُب باهتمام أداء الجنود المصريين، وسرعة الاستجابة والجاهزية بإعجاب شديد، لم أنسَ طلب الجينرال الأمريكي التقاط صورة من جندي يحمل مؤهلاً متوسطًا، اسمه سيد من قرية أولاد صقر مركز كفر صقر شرقية، هكذا كان سيد يعلن عن نفسه يوميًا لنا في العنبر بفخر، ونحن نتشارك في كوب الشاي، سيد جهز مدفعه المضاد للطائرات للإطلاق في زمن يقل كثيرًا عن الزمن المقرر للجاهزية المطلقة للاشتباك متفوقًا على جنود أمريكيين.
أعرف جيدًا هذا السلسال المصري دون ادعاء زائف أو شوفينية، السلسال الذي لا تنقصه شجاعة المواجهة مع عدو صريح، ليس سهلاً على النفس أن تأتي ضربة الخسة والخيانة، ممن يحمل نفس هويتك، ويتخفى وراءها، كي يطعن بخسة، محتميًا وسط مدنيين، أو مدعيًا قيادة سيارة فنطاس، للإمداد بالمياه كي يفجرها غدرًا، لا تختلف الخيانة في العريش عن كل الخيانات على أرض مصر. لا فرق بين من يفجر برج كهرباء، أو عربة قطار، ومن يُفجر مبيتًا لضباط، أو حافلة تضم جنودُا وضباطًا في إجازاتهم.
لم يكن متاحًا لي كتابة مقال تحليلي عن تعقيدات المشهد، وأنا أقرأ قصة أم من أسيوط استُشهد ولدها الوحيد، ولا تعرف أنه صعد إلى السماء، وتظن أن تليفونه مغلقا لنفاد رصيده، فتذهب إلى محل قريب وتشحن رصيده بعشرة جنيهات، وتحاول فلا يرد، وتعود أمنا الطيبة لتشحن بعشرة جنيهات أخرى ولا يرد فتاها الصاعد.
لا أعرف كيف لم يرحم الغدر قلب أم لم تعرف في حياتها سوى الصبر والكفاح..!؟ لم يكن لدي ترف التعالي على الحزن، وتدبيج سطور بليدة عن قراءة مزعومة لعناصر المواجهة، ومحددات الأزمة، لم يكن متاحًا لي ارتداء عباءة محللي الفضائيات ممن يسمونهم بأسماء فخيمة متبوعة دائمًا بكلمة "استراتيجي"، لم يكن متاحًا لي- وأنا أشرح لطفلتي- كيف أن جنودًا من مصر قتلهم أُناس يزعمون أنهم من مصر، يدافع الأولون عن مصر، ويزعم الآخرون أن الله قد أرسلهم ليدافعوا عن الله بمزيدٍ من الدماء.
كان شريط الأخبار يمر بطيئًا على فوكس نيوز، وهو يتحدث عن قتلى، في هجوم نوعي على مبانٍ ومقرات عسكرية، داخل مدينة العريش. ظهر بيل أورايلي ليعيد ترديد الخبر بوجه بلاستيكي محايد، يخلو من أي مشاعر، مستعينا بفيديو لقناة الجزيرة القطرية، يتضمن تهليلاً بالله أكبر.
هذا المساء كان الوطن يتكور ويتعاظم بداخلي حزينًا، كنت مقهورًا وأنا أتلقى عبارات المواساة في المصعد من جيران أمريكيين يعرفون أنني في مهمة إلى بلادهم كي أردد اسم وطني كل صباح على مسامعهم وأدعوهم إلى الطيران إليه كي يتعلموا الحضارة من منابعها، كان الحزن ضيفًا ثقيلاً يحتل روحي وبيتي ومازال.