في إثيوبيا: الغول والعنقاء و"الغلاوة" السياسية
قال السفير المصري في إثيوبيا إن موضوع السد الإثيوبي لا يمكن حله بمعزل عن غيره. لا يمكن - لو تخيلناه سيارة معطلة - أن ندفعها إلى الإمام ونحن داخلها. أمامنا خياران، إما أن نستنفد مجهودنا بالاشتباك مع هذا الموضوع فقط، وإما أن نحاول جعله يطفو على غيره.
العلاقات الثنائية بين الدول - كما بين الأفراد - تحددها "الغلاوة". بأي معنى؟
في العلاقات الشخصية لدينا فرصة أكبر في التأثير على الأشخاص الذين نهمهم. إما لأسباب عاطفية، أو لأسباب مادية - أن نكون مصدر نفع لهم. ومن الغباء الاجتماعي الفاحش افتراض العشم في من لا نعنيهم، من الغباء أن ننتظر منهم معاملة خاصة، أو استجابة سريعة لرغباتنا.
في العلاقات السياسية تحاول الأمم الاستفادة من العلاقات العاطفية: شعب عربي واحد، شعب مسلم واحد، شعب إفريقي واحد، يربطنا شريان حياة واحد، الأراضي المقدسة، رحلة المسيح، وصية النبي محمد، إلخ.. كلها عبارات نطلقها ونحن نعلم أنها للاستهلاك المحلي أكثر منها للنجاعة العملية.
كلما استخدمنا التعبيرات العاطفية بشكل أكبر، كلما عنى ذلك سياسيا أننا نفتقد للعوامل الحقيقية التي يمكن أن تحدث تغييرا سياسيا.
في السواد الأعظم من التفاعل السياسي تعتمد الغلاوة على الاقتصاد، أو التحالفات الأمنية العسكرية، أو العداء المشترك لجهة واحدة. ينبغي أن نسأل أنفسنا أيا من هذه العوامل تتوافر في علاقتنا بإثيوبيا؟ لماذا نفترض أن تتنازل إثيوبيا لنا عن مشروع قومي ضخم، بحجم مشروع السد؟
لن تفعل.
وقت وفاة الملك عبد الله ملك السعودية، اختصر الرئيس التركي زيارته إلى إثيوبيا ليحضر جنازة الملك، ثم عاود بعدها مواصلة رحلته الإفريقية، فانتقل إلى الصومال.
خبر عارض. هل سألنا أنفسنا ماذا كان يفعل أردوجان في منطقة القرن الإفريقي؟ لماذا يأتي رئيس وزراء تقع بلاده على الحدود بين آسيا وأوروبا إلى الباب الخلفي لنا؟ ولماذا قبل قمة الاتحاد الإفريقي بأيام قلائل؟
رجال الأعمال الأتراك صاروا يسيطرون تقريبا على صناعة النسيج في إثيوبيا، النمر الإفريقي الصاعد، رجال ونساء الأعمال الأتراك هؤلاء هم رأس حربة السياسة التركية في كل مكان يصل إليه. هم الذين يحققون الهدف الأعظم في السياسة، "الغلاوة". هم الذين يجعلون تركيا بلدا "غاليا" على قلوب بلاد أخرى.
رئيس وزراء الصومال صرح في أثناء نفس الجولة الإفريقية لرجب طيب أردوغان بأن تركيا أكبر داعم مالي للصومال. لماذا تدعم تركيا الصومال؟
لأنها عنصر مهم في رقعة الـ "إكس أو" التي نلعبها في المنطقة، وهي مدخل إلى ليبيا، وهي بؤرة استخباراتية هامة جدا في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب.
هل وصل ما أعنيه، إن تركيا تموضع نفسها حيث تُفيد وتستفيد. مرة في علاقة مع القوة الأعظم في العالم. ومرة في علاقة مع دولة نامية مهمة. ومرة في علاقة مع دولة شبه فاشلة. كل واحدة من تلك العلاقات لها غرض.
عام 2003 كان حجم التجارة التركية مع إفريقيا 600 مليون دولار، أعلى قليلا من نصف مليار، الآن وصل إلى 14 مليار، أي أنها تضاعفت أكثر من 23 مرة. ولم يكن هذا ضربة حظ. ولا انفتاح لبركات السماء والأرض على تركيا. بل بدأ بسياسة واضحة جعلت عام 2005 عام إفريقيا، وتمت دراسة خطط التنمية الإفريقية - لاحظي! - لكي يعرف الأتراك كيف يجعلون أنفسهم "مفيدين" في هذه الخطط.
حسنا، هكذا السياسة، وهذه معايير السياسة. بعد ذلك لا يعني شيئا كل اعتقاداتنا عن أنفسنا بأننا مهمون أو مرعبون أو مستحقون للتقدير والحب بالفطرة، كل هذا لا يعني في السياسة شيئا.
رحلة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لحضور القمة الإفريقية في إثيوبيا خطوة جيدة، الزيارة التالية على مستوى العلاقات الثنائية، وهي في غضون شهرين، خطوة جيدة أخرى. لكن لا بد من الاقتصاد. لا بد أن نتحول إلى مصدر "نفع" للآخرين. لقد تأخرنا لكنه ليس مستحيلا.