الحمار وسُلطة العقل
كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن الحديث أدناه: (1)
ورأينا مبلغ الضرر الذي يقع علي مجتمعنا بسبب الثقافة التي غرستها تلك النوعية من الأحاديث "صحيحة السند" في أذهاننا. وبعيداً عن الأخطاء العلمية التي وردت في متن الحديث، أدعوك صديقي أن تتساءل معي: لماذا أورد راوي الحديث الجملة المظللة: الصادق المصدوق؟
سأترك لك الإجابة لأطرح السؤال التالي: ما هو الأثر الفقهي الذي سيترتب على إنكار هذا الحديث الوارد في البخاري ومسلم؟
يأتي الجواب على لسان الإمام، العلامة، الحافظ، البارع، شيخ الإسلام، وعالم أهل المشرق، وإمام أهل الحديث، "محمد بن يحيى"(2)، إذ يقول: من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر، وخرج من الإيمان، وبانت امرأته منه.. يستتاب، وإلا ضُربت عنقه، وجُعل ماله فيئاً بين المسلمين، ولم يدفن في قبور المسلمين..! وقبل أن تسأل؛ ما علاقة مسألة خلق القرآن برفض الحديث، دعني أجيبك سريعاً.
القائلون بخلق القرآن كانوا جماعة قد بدأت في الظهور مع أفول شمس الدولة الأموية، كانوا يقولون إن الإنسان "مُـخـيّـر"، غير مسـيّـر، فكل مسلم مسؤول عما اقترفت يداه، وكل فعل هو نتيجة إرادة واعية حرة، دون تدخل من السماء، لكن هذا المذهب كان يسبب إزعاجاً بالغاً للسلطات الأموية، ومن بعدها، وبشكل أكبر، لـ العباسية، التي كانت تريد من العامة والنخب اعترافا بـ "الـجـبـر"، وهو مذهب ينفي عن الإنسان أي إرادة، أو بالأحرى يسلبه كل إرادة منحها الله إياها، وكانت تريد ذلك لخدمة أهدافها السياسية بالطبع.(3)
ففرض هذا المذهب الفلسفي/الديني يعني، ضمن ما يعينه، أن الخلفاء اختيار الله، وأن عامة المسلمين ليس لهم من الأمر شيء، فهم جوعى وفقراء لأن الله أراد لهم ذلك، وهم حفاة عراة يتسولون – كأطفال الشوارع - بينما تعج قصورهم بآلاف السبايا والجواري، لأن الله قدّر ذلك، وما دام كل شيء تحركه يد الله، فلا يُملك مسلم أن يعترض على قدر الله، وتدبيره، وهكذا؛ وُلد فكرنا الديني، يحمل من السياسة أكثر مما يحمل من الدين!
فقضية خلق القرآن كانت قضية سياسية بالأساس، كانت صراعًا بين سُلطة الخلافة المتحالفة مع فقهاء السلطان، واضعي الأحاديث، في جانب، وفي الجانب الآخر؛ المعارضة السياسية والنخب الثقافية، أولئك الذين عُرفوا باسم "المعتزلة"، وكانوا يقولون بمسؤولية الإنسان عما اقترفت يداه، وهو مبدأ من شأنه أن يُعكر مزاج السلطة.
فخلق القرآن، يعني أنه كحوادث البشر، ليس أزليًا، شأن آياته كشأن أفعالنا، محكومة على الدوام بسياقات وظروف تاريخية وواقعية، أو ما نُسميه أسباب النزول، وعلى العكس من ذلك كانت تريد السُلطة، كانت تريد زرع الفكرة القائلة بأن كل شيء مقدر لنا سلفاً، ونحن في الأرحام مجرد علقة، كما يقول الحديث أعلاه.
وفي سبيل تحقيق تلك الغاية لم يكن هناك أسهل من آلية وضع الأحاديث، بعد شراء الفقهاء بالمال، لتلفيق أي فكرة لسند بعينه. لاحقاً؛ جرى اعتماد صحة سند الحديث، كمبدأ وحيد لصحته، وهو مبدأ من شأنه لا أن يشل كل قدرة للعقل لصالح النقل فحسب، بل أن يضرب الدين نفسه في مقتل، ويجعله يقف مع العقل كنقيضين متنافرين على الدوام، كما سيتضح معنا حالاً عند المقارنة بين مثالين، أحدهما يعتمد العقل، والآخر لا يعترف سوى بالنقل.
المثال الأول: عمرو بن عبيد (4)
كان أحد دعاة العقل، المعتزلة، ولم يكن من فقهاء السلطان، إذ كان، بشهادة خصومه، يرفض عطاياهم، دخل على الخليفة أبو جعفر المنصور ذات ليلة، وكان في حضرته بعض الفقهاء فقال له: إن هذا الأمر الذي أصبح في يدك لو بقي في يد من كان قبلك لم يصل إليك، فاحذر! وأظهر الحق يتبعك أهله، فرد عليه أحد الفقهاء الحاضرين: قد أتعبت أمير المؤمنين يا عمرو، رفقاً به. فقال له: بمثلك ضاع الأمر وانتشر!
وحين عرض عليه الحديث أعلاه قال: لو سمعت الأعمش يقول هذا الحديث لكذبته. ولو سمعت زيد بن وهب يقوله ما أجبته. ولو سمعت عبدالله بن مسعود يقوله ما قبلتُه. وهؤلاء هم رجال الحديث، ناقليه أو بالمصطلح الحديث: سنده، وها هو يعلن رفضه العقلي لما قالوه، حتى لو تأكد من قولهم إياه. بيد أنه لم يتوقف عند هذا الحد، إذ أردف: ولو سمعت رسول الله يقوله لرددته. ولو سمعت الله تعالي يقول هذا الحديث لقلت له: ليس على هذا أخذت ميثاقنا. (5)
وبعيداً عن أنه – بالطبع - قد تم تكفيره، إلا أننا أمام نموذج صارخ لرجل لا يقبل شيئا من الدين مخالفاً لما يراه عقله أبداً، حتى لو نسب إلى الله ورسوله، وهو رفض من داخل الدين، لا من خارجه، من متدين بنى إيمانه على مبدأ مغاير تماما للذي يقول به الحديث، مبدأ يقول: "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ"، وهو مبدأ جاء به الإسلام حصراً، ومن شأنه وحده أن ينتصر لسلطة العقل، ويمحي آثر تلك الثقافة الاتكالية.
المثال الثاني: ابن كثير. (6)
يقول: كان لرسول الله حمار يسمى "زياد بن شهاب" .. ذكر للنبي – أي الحمار – أنه من سلالة سبعين حمارا، كل منها ركبه نبي.. ثم ينتهي للقول بأن الحمار انتحر بعد موت النبي. ويُعقب: هذا الحديث قد أنكره أكثر من واحد. لماذا؟ بسبب "إسناده المجهول".
فهذه إذن مشكلة ابن كثير مع الحديث! والتي كانت قد انتفت في الصفحة نفسها إذ يقول: أتى النبي، وهو بخيبر حمار أسود، فوقف بين يديه، فقال: من أنت؟ النبي يسأل الحمار!
فقال الحمار: أنا "عمرو ابن فلان"، كنا سبعة إخوة كلنا ركبنا الأنبياء وأنا أصغرهم، وكنت لك، فملكني رجل من اليهود، فكنت إذا ذكرتك كبوت به فيوجعني ضربا. فقال رسول الله: فأنت يعفور.
هذا الحديث الذي لم يرفضه ابن كثير، مكتفياً بالتعليق بأنه " غريب"، يوضح لك كنقيض للمثال السابق، الفارق المهول بين العقل والنقل، يُـبـيّن لك كيف يتحول الواحد منا إلي "زياد بن شهاب" إذا ما تخلى طوعاً عقله.
المصادر:
الحديث رقم 6594 فتح الباري بشرح صحيح البخاري. المجلد الحادي عشر. كتاب القدر. صـ 486.
الذهبي. سير أعلام النبلاء. طبعة الرسالة. المجلد الثاني عشر. صـ 237. وانظر مقولته في تاريخ دمشق لإبن عساكر، حديث رقم: 55720 ضمن حرف الميم.
حول هذا الموضوع، راجع الائتلاف والاختلاف للدكتورة ناجية بو عجيلة.
انظر ترجمة الخطيب البغدادي له. تاريخ بغداد. دار الكتب العلمية. المجلد الرابع عشر. صـ 66
الخطيب البغداي. نفس المصدر. صـ 70
البداية والنهاية. طبعة هجر . المجلد الثامن. صـ 383