وحدة المصير بين الرئاستين اللبنانية والسورية
حين انطلق الحوار السني الشيعي اللبناني قبل عيد الميلاد الفائت، كان الخطاب السياسي في البلاد يتمحور حول فكرتين رئيسيتين من جهة تيار المستقبل، بزعامة الرئيس سعد الحريري، وفكرة رئيسية من جهة حزب الله.
أراد المستقبل بفكرة "الحوار" العبور إلى عنوان التهدئة السنية الشيعية وفرملة الغليان الشعبي السني، لا سيما في أطراف البيئة السنية اللبنانية، واندفاع جزء من هذه البيئة نحو خيار التشدد بكافة ألوانه، وصولا إلى التعاطف الضمني مع "الجهاد المضاد" الذي يستهدف حزب الله وبيئته ردا على "جهاد" حزب الله في الحرب السورية.
وأراد أيضًا، ويريد، تفكيك الألغام التي تزنر خطوط التعايش السُني الشيعي من خلال انتشار شلل سرايا المقاومة من "شبعا" في الجنوب إلى البقاع شرقًا، مرورا بخط ساحل جبل الشوف والعاصمة وطرابلس وعكار شمالاً.
كما أراد المستقبل، ويريد، العبور بالحوار إلى إعادة النصاب للحياة السياسية والوطنية وعمل المؤسسات من خلال إقناع حزب الله بانتخاب رئيس توافقي للجمهورية لإنهاء حالة الفراغ الرئاسي الحاصل منذ 25 مايو 2014، وإنهاء الشذوذ المؤسساتي الناتج عنه والمتمثل بحكومة الرؤساء الأربعة والعشرين؛ نتيجة انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعًا.
من جهته كان حزب الله أكثر تركيزًا على فكرة محددة يريدها من عبارة "تخفيف الاحتقان السني الشيعي"، وهي تطويع الفريق السياسي السني الأكبر في لبنان وإعادة تدوير موقفه السياسي في معركة الحزب في سوريا تحت عنوان مخادع هو مكافحة الإرهاب، وصولا إلى إعادة إحياء ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة.
هذه الثلاثية كان رفعها حزب الله في السابق ليفرض على اللبنانيين القبول بحزب الله كمكون من مكونات الدولة والهوية الوطنية اللبنانية إلى جانب الجيش والشعب.
فتخفيف الاحتقان بالنسبة لحزب الله يعني تمتين وتحصين عنصر الشعب في المعادلة الثلاثية الشهيرة، وإلحاقه بالعنصرين الآخرين بما أن الجيش والمقاومة في حكم شراكة أمر واقع في مواجهة داعش والنصرة من خلال انتشارهما المشترك، ولو غير المباشر، على حدود لبنان مع سوريا.
ومع انقضاء الجولة الرابعة للحوار السني الشيعي، ليس صعبًا القول إن المعطيات على الأرض تكشف أن أجندة حزب الله تتقدم على أجندة المستقبل.
فلا يفوت أي مراقب أن حضور مسألة رئاسة الجمهورية خفَتَ إلى حدود الغياب من الخطاب السياسي في البلد، وهو غياب يرفده انطلاق حوار قطبي المسيحيين الموارنة الأبرز الدكتور سمير جعجع والجنرال ميشال عون، ما وضع مسألة الرئاسة قيد انتظارات عديدة وفرمل اندفاعة المستقبل لتسويق فكرة الرئيس التوافقي لدى حزب الله، الذي سيكون لديه دائما حجة حاسمة وهي انتظار ما سيقرره المسيحيون في حوارهم!!!
كما يتغذى غياب بند انتخاب رئيس للجمهورية عن جدول الأعمال السياسي في لبنان من ضمور المعطيات الإقليمية التي أنعشت الآمال عشية انطلاق الحوار بتوفر فرصة دولية لإتمام هذا الاستحقاق، على ما دلت حينذاك نتائج قيل إنها نتجت عن جولات الموفد الفرنسي فرنسوا جيرو ولقاءاته مع المسؤولين الإيرانيين، ليتبين لاحقاً أن التشدد الإيراني وربط طهران لملف الرئاسة بتطورات الأزمة السورية أكبر من أن تفكه مهارة الدبلوماسية الفرنسية.
ثم جاءت الغارة الإسرائيلية على موكب لحزب الله والحرس الثوري الإيرانيّ في القنيطرة السورية قبل أكثر من أسبوع، لتؤكد أن إيران وحزب الله يسعيان إلى توحيد جبهتي الجنوب اللبناني والجولان في سياق المزيد من تربيط لبنان بالأزمة السورية ومستقبلها.
ما يعني أننا أمام ربط سياسي عنوانه ربط مصير قصر بعبدا الرئاسي بمصير قصر المهاجرين الرئاسي وربط عملياتي ميداني من خلال ربط لبنان وسوريا ربطا واحدا بالاستراتيجية الإيرانية وإدارتها، إلى حد يمكن معه القول إنه كما استخدم حافظ الأسد لبنان لإدارة علاقته بإسرائيل، تستخدم إيران سوريا (ولبنان) لإدارة علاقتها بإسرائيل.
أي تحويل كامل الجبهة السورية اللبنانية إلى "مزارع شبعا" تتحكم بمصيرها ولاية الفقيه.
عليه ما يبقي على لحمة الحوار السني الشيعي في لبنان هي نقطة التقاء واحدة حتى الآن، وهي الموضوع الأمني بأبعاده جميعًا، من مكافحة الإرهاب، التي ستظل مبتورة كونها تواجه السلاح الوافد إلى لبنان دون أن تكون قادرة على معالجة السلاح الخارج منه، وصولا إلى فرض خطط أمنية لا تكلف حزب الله كثيرًا للتعاون فيها كونها تستهدف من باتوا عبئًا معنويا جديدا على الحزب نفسه وعلى بيئته.
بل الأهم، التقاء حزب الله والمستقبل على رفض أي شكل من أشكال الانهيار الأهلي في لبنان ورفض استلحاق لبنان بالحروب الأهلية المندلعة في المنطقة، وهنا الإشكالية الكبرى!
يعلم قادة المستقبل أنهم بتجنيب لبنان السقوط في الحرب الأهلية إنما يخدمون، إلى جانب لبنان وأهله، أجندة حزب الله. فالحزب الذي ينام على سرير رفض الحرب الأهلية مع المستقبل، تراوده أحلام مختلفة.
وهو إذ يريد شيئا من منع هذه الحرب فلأنه يريد حماية لبنان بوصفه غرفة عمليات حزب الله التي منها ينطلق للانخراط في الحروب الأهلية العربية المندلعة في سوريا والعراق واليمن وغيرها.
أي لا يريد حربا في لبنان تعيق عليه انخراطه في حروبه خارج لبنان. الخيار الآخر أن يندفع تيار المستقبل إلى استراتيجية هدم الهيكل عبر إحراق لبنان لإحراق حزب الله فيه، وهي استراتيجية قد تنهي حزب الله فعلا لكنها بالتأكيد ستنهي لبنان الذي نعرف إلى غير رجعة.
وبالتالي يتصرف تيار المستقبل على قاعدة النفس الطويل. هنيئاً إن أنتج الحوار شيئاً، أكثر من تثبيت هيكل الدولة، وإن لم ينتج فإن متغيرات كثيرة تتهيأ لفرض نفسها على المشهد السياسي في المنطقة من نتائج الحوار الأميركي الإيراني بشأن برنامج طهران النووي وصولا إلى ما بعد مرض المرشد المتفاقم الذي أدخل إيران في سخونة داخلية سيكون لها نتائج كبيرة على مستقبل إيران والمنطقة.